الأولى

بقلم
فيصل العش
هيبة الدولة من هيبة مواطنيها... وشرفها من شرفهم
 وأنا أتابع موقف الدّولة الفرنسيّة ممّا حدث لعدد من مواطنيها خلال عمليتين إرهابيتين استهدفت الأولى صحيفة شالي هابدو والثانية متجرا يهوديّا بالعاصمة باريس، وكيف  أعلنت النّفير العام ودعت جميع ملوك الأرض ورؤساء الدّول وحكّامها للقيام بمسيرة تاريخيّة تندّد بالجريمة وتُعلي قدر الميّتين، تذكّرت الخليفة العبّاسي الثّامن المعتصم بالله وتفاعله مع صيحة « وامعتصماه » للمرأة العموريّة (نسبة إلى عموريّة وهي من أهم مدن الإمبراطوريّة البيزنطيّة توجد في غرب الأناضول بتركيا).
تقول الرّواية أنّ رجلا وقف بين يديّ المعتصم ليخبره بما شاهده في عموريّة فقال: «يا أمير المؤمنين، كنت بعمورية فرأيت امرأة عربيّة في السّوق مهيبة جليلة تُسحل إلى السّجن فصاحت في لهفة: «وامعتصماه وامعتصماه». فبعث المعتصم على الفور برسالة إلى حاكم عموريّة جاء فيها: «من أمير المؤمنين إلى كلب الرّوم، أخرج المرأة من السّجن وإلاّ أتيتك بجيش بدايته عندك ونهايته عندي». فلمّا لم يستجب الأمير الرّومي لمطلبه، نادى المعتصم بالنّفير والاستعداد للحرب ومضى على رأس جيش كبيرمجهّز بما لم يعدّه أحد من قبله من السّلاح والمؤن وآلات الحرب واتّجه صوب عموريّة، وبعد جهد جهيد وحصار طويل دام نصف عام تقريبا، استسلمت المدينة ودخلها المعتصم فبحث عن المرأة، فلما حضرت بين يديه قال لها: «هل أجابك المعتصم؟» قالت:« نعم».
فدعى بإحضار حاكم المدينة، فلمّا استقدم الرّجل، قالت له المرأة : «هذا هو المعتصم قد جاء وأخزاك» قال: «قولي فيه قولك». قالت: «أعز الله مُلْك أمير المؤمنين، بحسبي من المجد أنّك ثأرت لي. بحسبي من الفخر أنّك انتصرت، فهل يأذن لي أمير المؤمنين في أن أعفو عنه وأدَع مالي له؟». فأُعجب المعتصم بمقالها وقال لها: «لأنت جديرة حقّا بأن حاربتُ الرّوم ثأرًا لك. ولتعلم الرّوم أنّنا نعفو حينما نقدر».
قد يستغرب القارئ من استحضار ما قام به المعتصم في حقبة تاريخيّة كان فيها المسلمون أسيادَ العالم، وقد يتساءل عن الرّابط العجيب بين الحدثين وقد تغيّر العالم وأصبح الزّمان غير الزّمان وضعفت شوكة المسلمين ولم يعد لهم  وزن ولا هيبة. 
ما يهمّنا في القصّتين هو كيفيّة تعامل السّلط الحاكمة وأجهزة الدّولة مع أحداث مسّت مواطنيها ورعاياها. فبينما حرّك المعتصم بالله جيشا جرّارا لتحرير امرأة (مواطنة) تنتمي لدولته استصرخته لمّا حصل لها مكروه، جنّد «هولوند» أجهزة دولته كلّها للقضاء على ارهابيين اعتدوا على حرمة مواطنين فرنسيّين واغتالوا البعض منهم. ودعا العالم كلّه لمشاركته المسيرة الكبيرة بباريس تنديدا بما تمّ اقترافه ودفاعا عن هيبة فرنسا وحرمة مواطنيها.
لسنا هنا بصدد ذكر خصال «المعتصم» ومدحه أو الوقوف في صفّ «هولند» وجيشه الذي حرّكه في اتجاه الشرق بتعلّة محاربة الارهاب كما فعل من قبل بوش إثر أحداث 11 سبتمبر 2001، لكنّنا نريد أن نسلّط الضّوء على كيفيّة تعامل الدّولة مع مواطنيها ومدى إحساسها بقيمتهم.
إن الدّول القويّة المهابة هي التي تحترم مواطنيها وتدافع عنهم وتوفّر لهم الأمن والأمان وهي مستعدّة لشنّ الحروب من أجل مواطن واحد أهين أو تمّ الاعتداء عليه داخل الوطن أو خارجه. تستمدّ هذه الدوّل قوّتها من شعوبها ولا تحتقر مواطنيها، لهذا ترى هؤلاء معتزّين بانتمائهم لدولتهم  وتراهم ملتزمين بواجباتهم تجاه هذا الوطن، متفرّغين إلى الإنتاج والعمل ومتعاونين من أجل رقيّه وعلو سمعته.
 أنظروا إلى المرأة كيف تصرّفت عندما دعاها المعتصم إلى الحكم على من أذلّها، إذ قالت: «أعز الله ملك أمير المؤمنين، بحسبي من المجد أنّك ثأرت لي. بحسبي من الفخر أنّك انتصرت». ألا يدلّ ذلك على رقيّ في الوعي واحساس بالمجد والكرامة واعتزاز بالانتماء إلى دولة «المعتصم» ؟ ثمّ انظروا إلى ردّ المعتصم حين قال : «لأنت جديرة حقّا بأن حاربتُ الرّوم ثأرًا لك»، ألا يدلّ ذلك أن المعتصم أحسّ بالعظمة نتيجة قيمة تلك المرأة العربيّة ؟ 
نعود إلى العمليّة الإرهابيّة المسلّحة التي طالت صحيفة «شارلي هبدو» والتي راح ضحيّتها عدد من الفرنسيّين، لنرى كيف تصرّفت الدّولة الفرنسيّة حيال ما حدث. لقد جنّدت كل طاقاتها للقضاء بسرعة على الإرهابيّين ونادت إلى تنظيم مسيرة عالميّة بباريس للتّنديد بالإرهاب، فهبّ عدد لابأس به من قادة العالم للمشاركة فيها وخاصّة من الدّول العربيّة فحضر ملك الأردن عبد الله الثاني وزوجته الملكة رانيا، والرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء التونسي المنتهية ولايته مهدي جمعة، ووزراء خارجية الجزائر ولبنان والإمارات والبحرين. 
لقد جمعت باريس كل هؤلاء وغيرهم في حركة رمزيّة عبّرت من خلالها عن احترامها لموتاها من الفرنسيّين واعتذارها لهم عن فشلها في حمايتهم وهي بتلك الطريقة عبّرت عن القيمة التي تولّيها للمواطن الفرنسي (الغربي) وقدسيّة دمه.
ولعلّ ما دعاني إلى استحضار قصّة المعتصم بالله أيضا ما شاهدته خلال المسيرة الضّخمة من احتلال الزّعماء العرب والوزراء المشاركين فيها الصفّ الأولّ صحبة هولاند وماركل و.... نتنياهو !!!!
تساءلت هل في دمهم خصلة من دم المعتصم؟ كيف يمشون في مسيرة ضدّ الإرهاب مع زعيم الإرهاب العالمي وقاتل أطفالهم ونسائهم في غزّة ؟ هل دمّ مواطن فرنسي واحد أغلى من دماء آلاف المواطنين العرب ؟
تساءلت أيضا لماذا هرع هؤلاء بهذه السرعة للتّضامن مع فرنسا والتّرحم على أرواح «شارلي وصحبه» والتّنديد بالإرهاب في حين لم نرهم يجيّشون النّاس ويدعون العالم لمشاركتهم مسيرات تنديد بنفس الإرهاب الذي نكّل بأعداد غفيرة من مواطنين وساسيين وعسكريين وأمنيين عرب ؟ 
بحثت في دفاتري عن مسيرة عربيّة شارك فيها هؤلاء أو حتّى بعضهم تضامنا مع الدّم الفلسطيني المستباح، فلم أجد لها أثرا. هل لهذه الدّرجة يحتقر هؤلاء المواطن العربي؟ 
لماذا تقوم الدّنيا ولا تقعد من أجل نفس غربيّة ولا يحرّك العرب ساكنا لموت آلاف الأطفال والنساء والشيوخ العزّل في سوريا ومصر ولبنان والعراق واليمن وغيرها من الدّول العربية؟
 قد يقول البعض أنّ الأمر يتعلّق بحريّة التّعبير وبفقدان فرنسا لأفضل أربع رسّامي الكاريكاتور فيها، لكنّ «ناجي العلي» كان أيضا من أبرز رسّامي الكاريكاتور في العالم، فلماذا لم يجتمع هؤلاء الحكّام والزّعماء في مسيرة أو وقفة احتجاجيّة للتنديد بالموساد التي اغتالته في وضح النّهار بلندن ذات يوم من سنة 1987 ؟ هل دم «شارلي» أغلى من دم «حنظلة»؟ 
ليس هناك أدنى شكّ في أنّ دم الغربيّين أغلى بكثير عند حكامهم من دمائنا نحن العرب والمسلمين عند حكامنا سواء وصلوا للحكم بالوراثة أو عبر انقلاب عسكري أو عبر صندوق الانتخاب، وليس هناك ريبة في أن الحكّام العرب  لا تهمّهم كرامة مواطنيهم وأرواحهم، فهم لا يعبؤون لما يصيب رعاياهم من مآسي وآلام ولنا في قصّة حسني مبارك مع العبارة المصرية «السلام 98» التي غرقت في البحر الأحمر في شهرفيفري من سنة 2006 والتي راح ضحيتها آنذاك أكثر من 1033 نفسا بشريّة أغلبهم من المصريّين مثالا صريحا وبرهانا ساطعا، حيث خيّر «الريّس» مشاركة المنتخب المصري لكرة القدم فرحته بالترشح للدّور النّصف النّهائي لكأس إفريقيا للأمم بملعب القاهرة وكأن شيئا لم يحدث، فلم يكن غرق العبارة بالنسبة إليه سوى حادث عابر.
وانظر أيها القارئ الكريم إلى ما فعله «السّيسي» في المصريّين بعد انقلابه على رئيسه المنتخب، كيف قتل وحرق بدم بارد مئات العزّل من الأطفال والرّجال والنّساء في ساحة رابعة، ممّا حدا بصحيفة «واشنطن بوست» أهم الصحف الأمريكية إلى اعتبار جرائم السّيسى فى رابعة أكثر فضاعة من جرائم إسرائيل فى قطاع غزّة.
وانظر إلى ما يفعله «الأسد» في شعبه منذ عبّر هذا الأخير عن حقّه في الحريّة والانعتاق من هيمنة البعثيين، حيث يرميه بالبراميل المتفجّرة في كلّ وقت وحين راميا بأبسط حقوق البشر عرض الحائط. وانظر كيف قُمعت التحرّكات الشعبيّة بالبحرين بأياد عربيّة ولم يحرّك أحد من قادة العرب ساكنا بل هناك من حرّك دباباته وأدوات قمعه لدعم الحاكم بأمره في البحرين. لقد غدت أرواح العرب والمسلمين التي تُزهق في بلدانهم نتيجة العمليات الارهابيّة التي تنفّذها الجماعات المتطرّفة أوعساكر الأنظمة على حدّ سواء، أرقاما تذكر في نشرات الأخبار كما تذكر أرقام البورصة في النشرات الاقتصادية غير أنها دائمة الارتفاع في حين تخضع أرقام البورصة إلى واقع السوق وقانون العرض والطلب.  
وفي مقابل ذلك تحرّك الدّول الغربيّة أساطيلها وتبعث بجيوشها دفاعا عن رعاياها ومواطنيها كلّما وصلهم تهديد أو أصابهم مكروه. بل أنهم يفعلون المستحيل لاسترجاع أسراهم وجثامين قتلاهم في المعارك التي يخوضونها غربا وشرقا، وإلاّ فكيف نفسّر قيام «أوباما» في جوان 2014 بالإفراج عن 5 عناصر من طالبان في معتقل غوانتانامو مقابل العريف في الجيش الاميركي «بو برغدال» الذي كان محتجزا عند طالبان. يومها قال أوباما مخاطبا منتقديه: «لدينا مبدأ أساسي: لا نترك أحدا يرتدي البزّة الأميركية خلفنا» وتابع: «لا اعتذر أبدا عن إعادتنا شابّا لأهله تطوّع للقتال في أرض بعيدة ولم يروه منذ سنوات عدّة». ألا يدلّ هذا على قيمة العسكري الأمريكي لدى دولته؟ وكيف نفسّرقيام الكيان الصهيوني باستعادة رفات أربعة جنود مقابل اطلاق سراح 400 أسير فلسطيني و23 لبنانيا ضمن صفقة للتبادل مع حزب الله سنة 2004، وقبوله تبادل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط مقابل الافراج عن 1028 أسيراً وأسيرة ضمن عملية تبادل أجراها مع كتائب القسام سنة 2011؟ 
إن معيار تقدّم الدول وقوّتها هو مدى القيمة التي توليها للنّفس الإنسانيّة لمواطنيها، فكلّما ارتفعت قيمة المواطن ارتفعت مكانة  الدول وهيبتها، ولا يقف ذلك عند حماية المواطن من المخاطر وتقدير حرمة جسده حين يصيبه مكروه بل يتعدّاه إلى الاعتناء بصحّته وتعليمه وغذائه واعتباره صاحب الشأن أولا وأخيرا. 
لذلك فإنّه لا يمكن الحديث عن تنمية وتطور وازدهار لدولنا العربيّة الاسلاميّة ما لم تتغيّر نظرة حكّام هذه الدول إلى مواطنيها فمن دون تقدير قيمة المواطن والرفع من شأنه واعتباره الهدف والغاية من كل برنامج أو قرار يتّخذ، فإنّ هذه الدّول لن تقدر على تجاوز واقع المهانة والتبعيّة التي تعيش فيه ولن تستطيع تحقيق النّصر على أعدائها مهما كان حجم هذا الانتصار. 
لقد بنى المسلمون دولة عظيمة وحضارة انتشرت شرقا وغربا في بضع سنين على أنقاض أكبر امبراطوريتين كانتا تتقاسمان العالم لأنّهم انتصروا لقيمة الإنسان ورفعوا من شأنه. أنظر أيها القارئ إلى الحديث الذي رواه ابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه حين قال رأيت رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطوف بالكعبة ويقول «ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه».
انظر إلى عظمة مدلول كرم رسول الله صلى الله عليه وسلّم زعيم هذه الأمّة، كيف رفع من قيمة الفرد في المجتمع المسلم وجعل حرمة ماله ودمه أعظم عند الخالق من حرمة الكعبة، بيته الحرام. 
وانظر إلى حديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم حين قال: «لَزوال الدنيا أهون عند الله مِن قتل رَجل مُسلم» . رواه الترمذي والنسائي ، وصححه الألباني. لقد كانت قيمة المؤمن (المواطن في ذلك الوقت) كبيرة عند القائمين على أمور المسلمين لذلك كان الناس يحسّون بالعزّة والكرامة ويعتزّون بالإنتماء للدولة التي تسهر على حرمتهم فكانوا خير سند لها وخير جنود لإعلاء راياتها. 
وعندما انحرف الحكّام عن مسلك رسولهم واستعبدوا النّاس بالسّوط والسّيف ضاربين بالقيم الانسانية النبيلة التي أتى الإسلام ليجذّرها ويرفع من شأنها عُرْضَ الحائط واتبعوا طريق الاستبداد، ضعفت شوكتهم وأصبحت دولهم أوهن من بيت العنكبوت وأفل نجم حضارتهم، فتداعت عليهم الأمم كما يتداعى الجياع على قصعة الثّريد واللّحم.
نريد أن نهمس في أذن الحكّام العرب والمسلمين الذّين يدّعون بأنهم يمثّلون الدّولة ويدعون إلى المحافظة على هيبتها بأنّ هيبتها من هيبة مواطنيها وأنّ أمنها من أمنهم ولا قيمة للدّولة وأجهزتها إذا كانت تحتقر مواطنيها ولا توفر لهم الحماية والأمن ولا تدافع بما أوتيت من قوّة عن مصالحهم لأنّ مصالح مواطنيها من مصالحها. وكرامتها من كرامتهم وشرفها هو شرفهم.