مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
معالم طريق التنمية على ضوء فصول الدستور
 بعد إتمام مرحلة اختيار ممثّلي الشّعب سواء في السّلطة التّشريعية أو السّلطة التنفيذيّة، دقّت ساعة الحقيقة، ساعة السير بثبات وعزم على طريق التّنمية وبكلّ إصرار من أجل أن نرى رأي العين كلاّ من التونسيّة والتونسي وهما يعيشان الكرامة واقعا ويحظيان بالتفضيل مكانة وينعمان بالرزق غدقا.
ولمنح مجتمعنا تلك المكرُمة وضع دُستور الجمهورية التونسية الثّانية عبر فصوله المائة والتّسع وأربعين أرضيّة تشريعيّة صلبة كفيلة بإحداث تنمية حقيقيّة ببلدنا تشمل كل مجالات الحياة وذلك من خلال ما يمكن أن نطلق عليه إسم «خريطة طريق» زادها تكليف الدّستور في فصله 72 رئيس الجمهوريّة بالسّهر على احترامه، وتكليفه في فصله 89  رئيس الحكومة وأعضاءها بالقسم على احترامه ضمانة قويّة للسّير قدما في ذلك الطّريق.
فمن وضعه لإطار وكنه التنمية وغايتها وكذلك أسسها مرورا بضبطه لطبيعتها ولشروطها وصولا إلى تحديده للهيئات والسّلط التي ستؤطّر العمليّة التنمويّة برمتها، يكون المشرّع التّونسي قد أرسى الأرضيّة التشريعيّة وحدّد معالم طريق التّنمية الواجب الاهتداء بها في انتظار صياغته للقوانين المنظّمة لأبواب الدّستور والمصادقة عليها حتّى لا يحيد أحد عنها سواء في مؤسّسات الدّولة أو المجتمع.
وفيما يلي استنطاق لبعضٍ من فُصول الدُستور من وجهة نظر تنموية. 
(1) التنمية : كنهها وغايتها وأسسها
• ففي الفصل الرابع للدّستور وُضع شعار الجمهوريـة « حرية، كرامة، عدالة، نظام» ليُوضع ضمنه للتّنمية إطار وكنه عكستهما كلمة «حريّة» مثلما ذهب إلى تلك الدّلالة  الفيلسوف الاقتصادي الهندي «آمار سيا صان» حين اعتبر «التّنمية حريّة» فضلا عن تخصيص المشرّع بابا بأكمله للحقوق والحرياّت يحتوي على 29 فصلا، منها ذكرا لا حصرا:
- الفصل 32 وفيه ما يضمن النّفاذ إلى المعلومة وإلى شبكات الاتّصال بما يوفّر مادّة خصبة وضروريّة لكل عمل تنمويّ سواء على مستوى الدّراسات أو على مستوى الإنجازات المادّية. وقد جاء في هذا الفصل «تضمن الدّولة الحقّ في الإعلام والحقّ في النّفاذ إلى المعلومة. تسعى الدّولة إلى ضمان الحقّ في النّفاذ إلى شبكات الاتّصال».
- الفصل 33 وفيه ضمانة لحرّية البحث العلمي وتوفير لمستلزماته ممّا يؤهّل الجامعة التونسيّة لأن تكون مؤسّسة مجتمعيّة تعكس الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة وتُظهر درجة التّطور الاجتماعي وتكشف عن أهداف المجتمع وتحدّد دور الأجيال وتؤهّلهم إلى تحمّل مسؤولياتهم التنمويّة وتنفيذ باكورة بحوثهم العلميّة وقد جاء في هذا الفصل «الحريات الأكاديميّة وحرّية البحث العلمي مضمونة. توفّر الدّولة الإمكانيات اللاّزمة لتطوير البحث العلمي والتكنولوجي»
- الفصل 42 وفيه نقرأ إقرارا بحرّية الإبداع ودعما للثّقافة الوطنيّة وحماية للموروث الثّقافي مما يدلّ على اهتمام بعمق التّنمية متمثّلا في التنمية الإنسانيّة الثقافيّة التي تجعل الإنسان فقيها بتراثه مُلمّا بكل جوانبه عارفا بكنوزه معتزا بهويته ومُعتمدا على قيمه بما يشكل له قاعدة صلبة للانطلاق في اتجاه نحت حياة معاصرة وفي نفس الوقت مُتأصّلة في تراثها وقد جاء في هذا الفصل «الحقّ في الثّقافة مضمون.حُرّية الإبداع مضمونة وتشجّع الدّولة الإبداع الثّقافي وتدعم الثّقافة الوطنيّة في تأصّلها وتنوّعها وتجدّدها بما يكرّس قيم التّسامح ونبذ العنف والانفتاح على مُختلف الثّقافات والحوار بين الحضارات.تحمي الدّولة المورُوث الثّقافي وتضمن حقّ الأجيال القادمة فيه». 
• وبالعودة إلى الفصل الرّابع يمكن أن نستشف دلالات كلمات ثلاث:
- أولاها تحديدا لغاية التّنمية عبر كلمة «كرامة» تناغما مع الفعل الإلهي وتأسّيا به «ولقد كرّمنا بني آدم»(الآية 70 سورة الإسراء).
- ثانيها بيانا لأسس التّنمية عبر كلمتيّ «عدالـة، نظـام» إذ أنّ «العدل أساس العمران والظّلم مؤذّن بخرابه» كما نقرأ في مقدمة ابن خلدون.
(2) طبيعة التنمية
في دستور الجمهوريّة التونسيّة الثّانية تحديد لطبيعة التّنمية ووعي بحجمها ومتطلباتها:  
• ففي الفصل الثّاني عشر حدّد المُشرِّع بشكل جليّ لا لبس فيه طبيعة التّنمية مُتبنّيا مقُولة «التّنمية المستدامة» ذاكرا إيّاها في سياق صيرورة تنطلق من استغلال رشيد للثّروات الوطنيّة لتصل إلى تحقيق العدالة الاجتماعيّة والتّوازن بين الجهات بالاعتماد على مؤشّرات محدّدة ومبدأ متداول، ففي هذا الفصل «تسعى الدّولة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والتّوازن بين الجهات استنادا إلى مؤشّرات التّنمية واعتمادا على مبدأ التمييز الإيجابي، كما تعمل على الاستغلال الرشيد للثّروات الوطنية».
• وفي الفصل الثّامن إدراك بأنّ التّنمية عمليّة شاملة لمختلف مجالات الحياة تتطلّب توفّر قدرات شبابيّة، إذ جاء فيه «تحرص الدّولة على توفير الظروف الكفيلة بتنمية قدرات الشّباب وتفعيل طاقاته وتعمل على تحمّله المسؤوليّة وعلى توسيع إسهامه في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافيّة والسياسيّة».
• أما المجال البيئي فقد حضي في توطئة الدّستور بالوعي «بضرورة المساهمة في سلامة المناخ والحفاظ على البيئة سليمة بما يضمن استدامة مواردنا الطبيعيّة واستمراريّة الحياة الآمنة للأجيال القادمة» كما خُصّصَ للبيئة في تناغم مع ما حوتهُ التوطئة الفصل 45 وفيه «تضمن الدّولة الحقّ في بيئة سليمة ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ. وعلى الدّولة توفير الوسائل بالقضاء على التلوث».  
(3) شروط التنمية
وعيا بإستراتيجيّة العملية التنمويّة اهتم الدّستور بتعليم الطّفل التّونسي وصحته وتوفير جميع أنواع حمايته كشرط لإنجاح تلك العمليّة ففي الفصل 47 «حقوق الطّفل على أبويه وعلى الدولة ضمان الكرامة والصّحة والرّعاية والتّربية والتّعليم . على الدّولة توفير جميع أنواع الحماية لكلّ الأطفال دون تمييز ووفق المصالح الفضلى للطّفل»
كما لم يفُت المشرّع التّونسي أن يحوي الدّستور شروطا أخرى للتّنمية والتي يمكن استخراجها من بعض فصوله تباعا: 
• تجاوز حالة التجزئة والعمل على توحيد المغرب العربي إذ أنّ حالة التّجزئة قد بعثرت الجهود وشتّتت الإمكانات والطّاقات كما مهّدت لتزايد التبعيّة لأوروبا القويّة المتوحّدة على حساب المغرب العربي الضعيف المشتّت، كما أنّ وضع حدّ للتجزئة من شأنه أن يرفع تحدّي الفجوة الهيكليّة التي بيننا وبين شركائنا التقليديّين التّجاريين منهم والماليّين الأمر الذي من شأنه أن يقوّي قدراتنا التفاوضيّة مستقبلا حفاظا على مصالح مجتمعنا وقد جاء في الفصل الخامس «الجمهورية التونسيّة جزء من المغرب العربي تعمل على تحقيق وحدته وتتخذ كافة التدابير لتجسيمها»ما يعكس وعيا بشرط أساسي من شروط التنمية.
• الحرص على توفير شرط آخر من شروط تحقيق التّنمية لا يقلّ أهمّية عن سابقه متمثّلا في إقامة نظام جبائي عادل ومنصف والحيلولة دون الفساد وتجفيف منابعه إذ من دون ذلك لا يمكن للتّنمية أن تتحقّق وذلك ما عكسه فحوى الفصل العاشر إذ جاء فيه أن «أداء الضريبة وتحمّل التكاليف العامّة واجب وفق نظام عادل ومنصف».
تضع الدّولة الآليات الكفيلة بضمان استخلاص الضريبة ومقاومة التّهرب والغشّ الجبائيين.
تحرص الدّولة على حسن التّصرف في المال العمومي وتتّخذ التّدابير اللاّزمة لصرفه حسب أولويّات الاقتصاد الوطني وتعمل على منع الفساد وكلّ ما من شأنه المساس بالسّيادة الوطنية».
(4) آليات التّنمية وهيئاتها الدّستوريّة
وعيا بأسباب إخفاق التّجارب التّنموية السّابقة والمتمثّلة أساسا في التّوجه المركزي المسقط والتّهميش المتعمّد لبعض الجهات من طرف المركز وقلّة التّمويل العام فضلا عن تهميش دور المواطن وقصور الأجهزة في تنفيذ مهامها لافتقادها صلاحيات حقيقيّة إضافة للتّوظيف الغير سليم للإدارة العموميّة، رأى المشرّع التّونسي بعث سلط محليّة في شكل جماعات تتكوّن من بلديّات وجهات وأقاليم تُدار بمجالس منتخبة ذات صلاحيّات واسعة وموارد متنوّعة بما يمكنّها من قيادة العمليّة التّنمويّة في الجهات بنجاح (الباب السّابع في الدّستور) ورأى المشرّع أيضا أن يضع آليات أنجع وهيئات دستوريّة ذات فاعليّة أكبر في المجال التّنموي(الباب السّادس في الدّستور) نذكر بعضا منها تباعا على سبيل الذّكر لا الحصر:
• اعتماد اللاّمركزية إذ جاء في الفصل 14 «تلتزم الدّولة بدعم اللاّمركزية واعتمادها بكامل التّراب الوطني في إطار وحدة الدّولة».
• تنظيم الإدارة العموميّة وجعل عملها وفق مجموعة من المبادئ والقواعد ذُكرت بوضوح في الفصل 15 الذي نصّ على أن «الإدارة العموميّة في خدمة المواطن والصالح العام. تُنظّم وتعمل وفق مبادئ الحياد والمساواة واستمراريّة المرفق العام ووفق قواعد الشّفافيّة والنّزاهة والنجاعة والمساءلة».
• انتخاب هيئات دستوريّة مستقلّة إداريّا وماليّا من بينها: 
- هيئة حقوق الإنسان حفاظا على الحقوق والحرّيات وتطويرا لمنظومة حقوق الإنسان كما ذُكر في  الفصل 128.
- هيئة التّنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة والتي حدّد الفصل 129 مهمتها إذ أنها « تُستشار وجوبا في مشاريع القوانين المتعلّقة بالمسائل الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة وفي مخطّطات التّنمية...» 
- هيئة الحوكمة الرّشيدة ومكافحة الفساد التي تُسهم في سياسات تلك الحوكمة وذلك الكفاح و «متابعة تنفيذها ونشر ثقافتها وتُعزّز مبادئ الشفافيّة والنّزاهة والمساءلة» كما جاء في الفصل 130.
وفي انتظار فِعل ما يحول بيننا وبين مقت الله، لا بدّ من التّأكيد على أن تحقيق المقاصد التنمويّة من حرّية وكرامة وصحّة وعلم وأمن لن يتمّ بمجرّد وضع منظومة تشريعيّة مهما كانت متميّزة ومتكاملة إلاّ إذا توفّرت إرادة التّغيير لدى كل تونسيّة وكل تونسيّ خاصة أصحاب المسؤوليّات في السّلط التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة والإعلاميّة «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»(الآية 11 سورة الرعد) ». 
 -------
-  رئيس مركز الدراسات التنموية
najmghorbel@gmail.com