قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
العرس الذي انفض
 انتهى العرس الانتخابي وكان أطول عرس في حياة التونسيين، بدأ بالتّشريعيّة فأفرز مجلسا للشّعب وانتهى بالرّئاسيّة فوضع على كرسي الرّئاسة رئيسا لن يكون بوسع أحد نعته بالمؤقت. وليست تونس استثناء في بلاد الرّبيع العربي من حيث أنّها نظّمت انتخابات ناجحة كان فيها فائز ومهزوم، فقد كان الشّأن كذلك في مصر وفي ليبيا من قبل ولكن المسار لم يفض في النهاية إلا إلى مآلات أليمة ولعلّ قولة القذّافي الشهيرة «بكرة نزحف عليهم بالملايين ونطهر ليبيا منهم شبر شبر» قد بدأت تتجسّد الآن بواسطة جند «حفتر» أو على الأقل هذا هو المراد ولا عزاء لليبيّين في ديمقراطيتهم الوليدة . أمّا في مصر، فقد انتهت كل الانتخابات وما أفضت إليه بانقلاب دموي وسلطة جديدة ليست لها من رادع ولا من رقيب، حتّى لقد كاد الثّوار يترحّمون على عهد من ثاروا عليه. حينئذ يمكننا القول بأنّ العرس الذي انفضّ سماره ومقيموه ومدعووه ما زال لم يؤت ثماره ولم نر بعد إن كان عرسا حقيقيّا يحقّ لنا أن نحتفل فيه أم هو مجرّد وهم بالعرس لا حقيقة للفرح فيه.
إن الاستثناء التّونسي كان في الحقيقة استثناء في التّواضع على أدوات إدارة الصّراع وهو ما أدّى بنا جميعا إلى القبول بالانتخابات كآليّة لا بديل لها في إدارة الاختلاف، وهذا الاستثناء منشأه أنّنا في اللّحظة المناسبة أردنا جميعا أن يكون الصّراع سلميّا وأن تكون أدوات هذا الصّراع هي أيضا سلميّة وقد جعلنا من وحدة البلد ومن الحفاظ على أمنه هدفا استراتيجيّا لا يمكن التّلاعب به مهما كانت التّضحيات.
لقد كان الإقرار بتنوّع البلد وبتعدّد المشارب ضروريّا للبدء في مسار يمكن للجميع المشاركة فيه دون إقصاء ولذلك كان إقرار الجميع بحقّ الجميع في المساهمة في بناء الوطن هو المحفّز لاعتماد الانتخابات كآلية لإدارة الصّراع بدل الرّكون إلى آليات أخرى كانت ستودي بالبلد وبما فيه لولا الحكمة والتّروّي اللّذين أبدتهما الأطراف الحاكمة وبعض الأطراف المعارضة في حينها، لكنّا الآن في وضع لا نحسد عليه.
ليس في ثقافتنا للأسف فكرة التّداول على السّلطة بطريقة سلمية، وقد كان منطق الغلبة هو الذي يحكم تصرّفات السّلطان وهو منطق مناطه فكرة واحدة ظلت تتكرّر وتتوالد مع تعاقب الأزمنة والعصور وهي فكرة «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» منذ زمن الفراعنة السّحيق إلى زمن فراعنة هذا العصر. ولقد كان من أفضع ما اتهمت به الثّلاثية التي حكمت بعد الانتخابات السّابقة هو اتّهامها بأنّها تعاملت مع الحكم بمنطق الغنيمة  وأنّها لم تفكّر في التّشارك مع المعارضة وإنّما حاولت أن تستأثر بالحكم  و أن تتغوّل على الجميع فهل ستتهم هذه السّلطة النّاشئة بذات الاتّهامات خاصة وأن الانتخابات سمحت لطرف واحد أن يجمع في يده كل السّلطات إن شاء .
إنّ المشكلة لا تبدو تاريخيّة أو ثقافيّة فحسب، بل هي مشكلة ذات أبعاد متعددة، ولعلّ من أبرز ما يمكن ملاحظته هو أنّ القديم الذي عاد لم يعد في ثوب القديم المعتاد وإنّما ارتدى حلّة جديدة هي حلّة الشّرعيّة الانتخابيّة وهي حلّة التّنمية وخدمة الشّعب وحتى حلّة تحقيق أهداف الثورة، أمّا الجديد فلم يعد جديد النّقاء الثوري والنّضال والتّغيير وحب الوطن فقط وإنّما صار جديد السّلطة المجرّبة والحقيقة الحزبيّة ومصلحة المجموعة وأصبح يمتلك هياكل ومؤسسات ويصارع ويتصارع في داخله ومع الآخرين حتّى أصبح بعضه يخشى من بعض وبعضه يتحالف مع القديم هروبا من استحقاقات الحاضر. ليس هذا فحسب بل إنّ بإمكاننا القول أنّ الشعب نفسه تغيّر ولم يعد هو الشّعب ذاته زمن الثّورة، فقد تمّت هرسلة بعضه حتّى كفر بالثّورة وبالدّيمقراطية وبكل الحراك الدّائر، أمّا بعضه الآخر فقد غدا يائسا غير قادر على الفهم ولا مستوعبا لما يحصل من حوله وقد فقد ثقته في الثّورة وفي السّياسة وفي السّياسيين وصار يتمنّى العودة إلى زمن لا يرى فيه إلاّ نفسه في المرآة لعلّه يتعرّف عليها. والأنكى من هؤلاء جميعا هو صنف آخر من الناس ومن الشّباب خاصّة ممّن أصبح لقمة سائغة في يد المبشّرين بجنّة الغرب أو في يد المهرّبين والإرهابييّن وتجّار المخدرات. وفي المحصلة لم يعد يؤمن بالثّورة وبالتغيير وبالمشاركة في تحديد مصير البلد إلاّ قلّة من أفراد هذا الشّعب هي التّي ظلّت تغالب الأحزان والأوجاع يأخذها التّفاؤل أحيانا وتغرق في التّشاؤم أحيانا أخرى .
أعتقد من خلال ما تقدّم أنّنا سوف نكون في السّنوات الخمس القادمة أمام تجربة أشدّ من الأولى، إذ سيكون علينا إدارة كلّ هذا الكمّ من الصّراع داخل مجتمعنا الواحد والعودة به إلا مربّع الفعل بعيدا عن منطق الغنيمة أو التّشفي وبعيدا أيضا عن منطق اليأس والهدم ولن يكون بوسعنا فعل هذا الشّيء ما لم نرس ثقافة السّلام وما لم نحد من نعيق النّاعقين الذين كره الشّعب نعيقهم واللذين لا همّ لهم إلاّ إشباع غريزتهم في التّشفي من خصم دائم أكان في السّلطة أم كان خارجها، فهم يريدونه أن يكون خارج الوطن هو ومن والاه  أو تحالف معه وهذا منطق لا يبني أوطانا وإنما يدمّرها على رؤوس من فيها .
انفض العرس وعاد كل محارب إلى قاعدته مثخنا أو مزهوا، وفي النّفس آمال ألاّ يكون هذا العرس سوى بداية لهناء الجميع في انتظار أعراس أخرى وفي انتظار أفق أرحب. ليتنا نستطيع أن نعيد الوطن لمواطنيه ونعيد كلّ المواطنين إلى وطنهم بدل التخويف من الإرهاب. ولا يبدو الأمر صعبا إذا كانت النّفوس عظيمة تحار في مرامها الألباب، أمّا إذا تركنا الوطن للنّاعقين صباحا مساحا كالغربان التي لا ترى إلاّ الجيف، فإنّنا سنزيد من الأحقاد وقد لا يبقى من الوطن إلّا ما نبكي عليه..
------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com