في الشأن السياسي

بقلم
مالك الشعبوني
بوادر انقشاع الضباب و الإعداد للإياب
 «السبسي» رئيسا لتونس...على لسان الجميع هذا الأسبوع، بين سعيد و حزين و داع لثورة جديدة. تقبّل الخبر كان صعبا على أنصار المرزوقي، معلنا بداية حقبة جديدة من تاريخ تونس ستطوي ربّما صفحة الثّورة أو تعود إلى الكتاب القديم.
نداء تونس «عزوزة القايلة»
من الصدف أن يعاير الحزب كصاحبه بالسّن فنعتبره عجوزا أيضا والحال أنّه لم يمض على تأسيسه أو على إعادة إحيائه سوى سنتين. والحقيقة أنّ هذا الوصف يستند إلى التّراث الشّعبي. شعبنا الطّفل في عالم الحريّة، يخاف من «عزوزة القايلة» ولا يستطيع أن يعرف إن كانت حقيقة أم خيالا، وسيناريو التّحول في البال. فعلا، لا أحد يدري أيّ تمش سيختار جماعة النّداء اليوم، نهج الدّيمقراطية أم نهج العودة إلى المنظومة السابقة. الخيار الدّيمقراطي سيتطلّب منهم تغيير عقلية متجذرة في أغلبهم وأيضا في جزء لا يستهان به ممّن انتخبهم. فإذا اعتبرنا أنّ الحزب الحاكم قد تغيّر، فكيف له أن يفرض هذا على أناس وخلايا ولوبيّات انطلقت في التّعدي على الغير والتوعّد بمجرّد فوز مرشّحه؟ طبعا هذا دون أن ننسى أن ما بادرت به قيادة الحزب لا يبشّر بأيّ خير: خروقات عديدة للدّستور، إنشاء لجنة لتعديله، الدّعوة إلى حلّ الأحزاب المساندة للمرزوقي، شيطنة كلّ مساند للخصم و حشره في زمرة العنف والإرهاب، والوعيد الطّاغي على الخطاب المقدّم... من ناحية أخرى فإنّ العودة إلى الإستبداد لن تكون سهلة خاصّة في ظلّ الإضطرابات جنوبي البلاد والتي تمثّل إنذارا استباقيّا سيأخذه بعين الإعتبار كل من يريد إعادة نظام البوليس.
استخلاصات الحملة الإنتخابية المرزوقية
رغم الهزيمة، فقد تمكن الدكتور من حشد فئات متنوّعة من الشّعب لم تتوحّد منذ أيام الثّورة. المنطق يفرض أنّها لم تجتمع لسواد عينيه، وإنّما اجتمعت حول مشروع حمله. الحملة شهدت حضور الشّباب وبقوة. فبعد أن إبتعد عن السّياسة وملّها، عاد جزء من الشّباب إلى الشّأن العام حرصا منه على المحافظة على مكتسبات الثورة ووعيا بخطورة المرحلة. جلّ النّخب السّياسية وقعت في أفخاخ حسابات الحكومة المرتقبة، وتمّ تسجيل مواقف تاريخيّة غريبة، قد تمثّل وصمة عار على جبين بعض السّياسيين. و لعلّ الجبهة الشعبيّة كانت أكبر متضرّر من موقفها عندما لم تتبعها أعداد غفيرة من قواعدها في خيار «قطّاع الطرق». ولكن اليسار التّونسي لم يكن خارج النّص جملة، إذ أعلنت بعض الشّخصيات اليساريّة دعمها للمرزوقي، مغرّدة بذلك خارج السّرب، معرضة أنفسها للإنتقاد اللاّذع من رفقائها، و لكن مسجّلة في نفس الوقت موقفا مشرفا. 
الإضطرابات... التشكيك... التزوير...
حملات التّشكيك في نزاهة الإنتخابات بدأت قبل الإنتخابات أصلا، إذ مثّلت فضيحة إعلان قناة الحوار التّونسي عن نسب إستطلاعات الرّأي بصفة غير مباشرة ليلة الجمعة، مثّلت أوّل الغيث. وبمجرّد تكرار نشر النّسب المذكورة مباشرة بعد إغلاق مراكز الإقتراع، وبخروج «محسن مرزوق» معلنا فوزا استباقيّا للفرز، انطلقت الإحتجاجات. «كذب المنجمون ولو صدقوا» كما فعـــل رئيس حملة «الباجي» بإعلانه الفوز في ذلك التوقيت، وإن أكّد الواقع تخميناته في نهاية المطاف. الإحتجاجات استمرت عندما انتشرت بطاقات التعريف «الأثرية» لأصحابها المرحومين الذين سجّلوا في الإنتخابات. ردّ الهيئة كان متعلثما مرتبكا، فأغلقت الهيئة سجلّ الناخبين في موقعها الرّسمي ثم اعادت فتحه ممّا أثار حفيظة المشكّكين.
لعلّ هاته المظاهرات كانت في الحقيقة غضبا من فوز «الباجي» أكثر من أن تكون تشكيكا، وإن جاز الشّك. البعض دعا لثورة ثانية. دعوات لا يمكن لأيّ سياسي أن يتبنّاها لأنّها تضرب الدّيمقراطية في الصميم. ولكنها في واقع الأمر مفهومة. فالغاضبون إستأمنوا المجلس التّأسيسي على ثورتهم ثم إستيقظوا على تجمع يعود من أوسع الأبواب، فكان ما كان لأنّ قواعد اللّعبة ليست تلك التي يؤمنون بها. حقّهم في رقاب من باع الثّورة، لا من اشتراها. الآن يجب أن يعطوا الفرصة لمن لا يستحقّها لعلّه بمعجزة يتوب. فإن لم يفعل، فلينتظروا أن يقيم الحجة على نفسه ويبادر بقمع الحريات. وعندها لن يلومهم أحد على الإنتفاض. 
تغييرات جذرية في الخريطة السياسية
بشّرت الهبة الشعبيّة التي رافقت المرزوقي خلال حملته بعودة مرتقبة لقوة التّعديل الثّوريّة الوسطيّة التي غابت في الفترة الأخيرة. صحيح أنّ الجزء الأكبر من ناخبيه نهضويّون، ولكن لا يجب أن ننسى ال15% الأخرين ولا الإلتفاف السّياسي الذي جمع عدّة أحزاب و شخصيات وطنيّة. أضف إلى ذلك النكسة المنتظرة لبعض الأحزاب على خلفيّة تشكيل الحكومة القادمة. هاته البشائر تأكّدت بإعلان الدّكتور عن مبادرته المسماة «حراك شعب المواطنين». عبارة غريبة تفرّد بها طيلة حملته الإنتخابيّة وهاهو يصف بها مبادرته التي تسعى للمّ شمل الطّيف السّياسي الذي سانده في الرّئاسية. لا شكّ أنّه مؤهّل لهذه المهمّة، لسببين : خبرته في تجميع مختلف التوجّهات، و موقعه الظّرفي كمتحصّل على أكثر من مليون صوت. هاته المبادرة فتحت أبواب الأمل للمتشائمين، وبدّدت بهتة الحائرين، على أمل أن تتوّج بكيان جديد جامع قادر على قلب موازين القوى السّياسية والدّفاع الشّرس عن مكتسبات الثّورة.
في المجمل، لم تكن حصيلة الإنتخابات الرّئاسية سلبيّة على أنصار الثّورة. صحيح أنّهم خسروا آخر مقاليد الحكم، ولكن «الحراك» والحماس الشعبي الذي توقّد في النفوس، والشّدة المنتظرة بصدد توحيد الصّفوف. الأمر الذي لا يمكن إلاّ أن يكون إيجابيا. 
{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: 216]
-------
-  طالب.
chaabouni.malek@gmail.com