كلمات

بقلم
عبدالنّبي العوني
في الأخير
 في الأخير وليس آخِرا.... أثبتت تجربة الانتقال الديمقراطي التونسية، بل قل كلّ تجارب التاريخ السّياسي التّونسي الحديث عدّة معطيات لابدّ للفكر السّياسي الوطني بمنطلقاته المختلفة، الوقوف على أهمّ مكوِّناتها وأسسها حتّى يتسنّى له تقديم بعضا من إجاباته لجلّ المعضلات التي مرّ بها الحراك المجتمعي عامة والسّياسي بصفة أخصّ طوال مرحلة بناء الدّولة الوطنيّة لما بعد 1956 حتّى الآن. إذ عُرِف المسرح السّياسي والحزبي في تونس بتحوّزه على ثلاثة عناصر أساسيّة، ومتداخلة فيما بينها.
- أوّلها: كتبة السيناريوات والمخرجين وتوابعهما التقنية والفنيّة وزوابعهما، ويعتبرون المهندسين الأساسيين لكلّ المراحل الكواليسيّة ولما وراء الستار ولما أمامه، ينهلون فنيًّا و تقنيًّا من كل تجاربهم المعيشيّة في كواليس الدّولة وما تحتويه بطائنها، ويصيغون بنسبة كبيرة المسارات الواجب أن تسير فيها قافلة الوطن ويمسكون تاريخيّا بمجداف السّفينة ولو عن بعد بواسطة خيوط الدّمى المتحركة ولو كانت من خيوط العنكبوت التي تتطلبها المرحلة، هم الذين يديرون الدفّة في اتجاه الرّيح وهم الذين استطاعوا التصرف في الباطن بشكل صلب وفاعل و إدارة اتجاه البوصلة ولو كانت عكس ما تريده إرادة الأغلبيّة المتحركة، حتى وإن تطلب منهم ذلك بعض الخسائر المؤقتة والمؤلمة في المؤن والعدّة والعتاد والأشخـــاص أوالممثليــــن الشرعيين لإراداتهــم... يمسكون الدفّة ويتوارثونها أب عن جدّ وكلّ محاولات المتفرّجين وبعض الممثلين لإزاحتهم باءت بالفشل وارتدّت على أعقابهم بخسارات يُعتقد في أوساطهم أنّها دائمة في إحلال شرعي وانتخابي عوضا عن المؤقَّت...ديدنهم التّخفي عن الأنظار ولا تجد لهم أثرا لا في النّدوات السّياسية ولا في المنتديات الخاصّة ولا في كتب التاريخ ولا في كتب الجغرافيا السّياسيّة، لا في الإعلام ولا على سطح موائده الإخبارية أو برامجه السّياسية...لا تسمع لهم حسّا ولا هسهسة إلاَّ ما عدى بعض الهمسات من أذُنٍ لأذن أو ما ندر من اتصالات هاتفية أو رسائل الكترونيّة... ولا تراهم إلاّ نادرا على ركح بعض الحفلات الخاصّة والخاصة جدّا وخصوصا بعدما ينام المشاهدون...إذ يتوارون قدر  الإمكان عن الأنظار ويتقنون جيّدا كبح جماح شهواتهم للصورة (صورة مراقبيهم وصورهم هم الداخلية عن أنفسهم)....وهم المنتصرون على الأغلب والمتحصنون وهم المتحصّلون على غالبيّة خراج المسرح السّياسي وفضاءه الإفتراضي وحتّى قضاءه...
- ثانيها: الممثّلون بمختلف أدوارهم، فيهم المتشابه وغير المتشابه وفيهم المشتبه وغير المشتبه، يؤدّون أدوارا محدّدة سلفا، وإن حدث واجتهد أحد الممثلين وأضاف من عندياته بعض المواقف المضحكة أو المبكية، الدرامية أو التراجيدية، وعزف نشازا، منفردا أو جامعا بعض من يتحلّقون حوله كمريدين، فيحصل له واحد من إثنينن، إمّا أن يُتركَ له مجال المواصلة والعزف (مثل عادل إمام في مسرحيّاته) وذلك لضرورة ومتطلبات المرحلة ولو إلى حين، ولكن إن عصى وتنمّر وواصل دون إذن واستنكف عن التعاون، تتكفل به وقتها طبقة من النقاّد والمحلّلين و«الكرونوكيرات» وبعض الصناديق الإعلامية أو الإنتخابيّة وتستحلّ فيها  نوافذ عرضه وشخصيته وبطانته ونفقاته، وإن عاد واسترشد ووعى الذي يقع يُجلب مسرعا ومتسرِّعا إلى الحضيرة كمفسّر أحلام أو كمترجم لفعالية المسرحة السياسية، أو كمُدَاري على كل السوءات التي تحدثها حركة الممثلين أو بعض هفوات مساعدي المخرجين. وإن استدرك في آخر فصوله ووقف عن المناكفة فربّما يحظى ببعض السّطور في كتب ونشريّات البحوث في حقل الحركة الوطنيّة أو في ذاكرة بعض الجامعيّين وعلى منتدياتهم. هذا الواحد الأوّل، أمّا الثّاني الذي إن خالجته محاولة التفرّد دون أن يمتلك الرّصيد الكافي من المساندة فهو يُعرَّض من أوّل أنعطافته لوهج شمس الآلة الدوّارة، تشفط الدهون والنرجسية والتعملق والتخاتل والمخادعة.... وكلُّ الممثّلين تجمعهم رؤية واحدة ومنهج واحد فإمّا فهم ووعي لاتجاه دوران  « الماكينة»  أو الانزياح عن المسرح ولو بعد عقود من الصياغات و المحاولات التي يتكفّل بها سدنَة القوانين ومستشاري الدسترة، ولو تمّت غير بعيدٍ من « إنّها الثورة يا مولاي».....
- ثالثهما: الجمهور، المصفّق منه أو المشدوه،  المنشرح منه أو العبوس، المنخرط منه أو المتواري، الحامل منه أو المحمول،  والمشارك منه أو العازف، الذي اختار الخيار الأوّل والذي أختار الثاني والذي قطع الطريق عن الثاني ولم يزكي الأوّل،..... كلّهم على المقاعد، قعودا أو  وقوفا أو على ناصية المسرح رقودا، في بحث دائم عن حلم يهلّ عليهم ليخفّف عنهم زحمة الجمهرة والمسرحة والمشاهدة الدائمة أو المؤقتة ووطأة الإنتظار المملّ لمهديٍ غير مؤنسن ينشر في الربوع عدلا وينمّي الأرض كي تنتج عسلا وسمنا ومنًّا وسلوى عوضا عن الثوم والبصل والزيوت المعلّبة...كلّهم يدخل دواليب دولة المسرح بوعي أو بدونه، كما يفسّره فوكو، يصل ببعضهم لرهن حركات تنفسه وأعضائها لدى بنك الباب العالي دون أن يجني ولو لأحفاده ثومًا، ويتوارى عن الكراسي دون أن يحدث ضجيجا أو صخبا أو همسا، ويضطجع مستمرئا ومستحلِيا مرارة الشوق والشبق، ومستمنيا الحنين لطور الخضوع والعبودية للمخرجين الذين استدامت  مسرحياتهم أكثر.
هذه إذا، تشكيلات مؤثثي مسرحنا التي حاولت الإطلالة عليها دون إطالة، لعلّي لا أقبض قبضة من أثر رسول السامرائي، ولا أنبذها ولا أترك نفسي تسوّل لي مع جملة الجمهور المصفّق. مع ملاحظة هامّة لا يمكن أن تزول بفعل النسيان، تتمثّل في كون الجمهور العام يمكن أن يختزن طوال مرحلة مواكباته ما تكثَّف من تموّجات صدى صوته، يحدث بها قفزات كميّة متوقّعة أو غير متوقّعة، تُحدِث إرباكا مفاجئا وتغييرا لمسلك المسار المُهَنْدَس، تنجح القفزة الكموميّة متى وجدت من يعبِّر عنها ويلخِّصها ويمثِّلها بشكل متناسب مع التطلعات والوهج الذي تحدثها القفزة أو مجموع القفزات المتتالية، ويتميّز من يمثّل كل هذا الحراك أن يكون متخرّجا من طينة غالبية ذلك الجمهور وله عصبة ودوائر ترعاه وتحميه وهو بالسليقة يرعاها ويمسح عنها غبار الانتقالات المؤقتة أو الدائمة، ويمتلك مع الزمن مرآة نفسيّة ترتسم على صفحتها كل هواجس ومخاوف الجمهور، وله خيوطا ضوئية توصله لمواقع قصيّة من أفئدة الغالبيّة وهذه المزايا لا تُملَّك ولا تمتلك عبر التدرُّجات الحزبية أو الجمعياتيّة، وإنّما هي أصل ذات طَبْعٍ وتطبُّع.
كما يحصل أن تحدث بعض الحوادث الفارقة والنّادرة أين ينشز الجمهور ويعاند ويناكف ويحدث الضجيج من ثمّ تسنح له الفرصة للصعود على الرّكح حين يصمت الممثِّلون والمهندسون مخافة الهرسلة  والهيجان و لانفلات دفّة التسيير عن أيديهم فيترك الفضاء و ينسحب المؤثرون لما وراء  وراء الستار  لبعض الوقت رجاء فسحة تنفيسيّة مؤقّتة سرعان ما تنفذ ويعود الركح مجالا  لتوسّع موضعي للكمبارس تنتهي برفع الستار وبالقوّة العامة حتّى لا يتوسّع وينتشر سلوك ونمط تفكيــــر «عيّارين الدولة العبّاسيّة» أو« شيوعيّة الدّولة».
ثمّ يرفع ستار ويسدل آخر على مسرح آخر.   
-------
-  أستاذ وباحث تونسي في الحضارة.
ouni_a@yahoo.fr