خواطر

بقلم
علي الطرهوني
هل انتهى زمن السّياسي في تقاطع الشّعبي مع المسيّس؟
 يقول الشاعر الصغيّر أولاد احمد :
«لينبت دود مكان البلح
ذهبنا إلى الإنتخاب
ولم ينتخب أحد من نجح»
هذه الأبيات تحضرني حين كـــان صندوق الانتخابات زمن الاستبــداد ممتلئـــا بأصوات النّاخبين أحياء وميّتين. أتذكــّر هـــذا مع ما رافق الحملـــة الانتخابيّـــة الرّئاسيّـــة بين المترشّحين من حملات تشكيك في نزاهة الانتخابـــات وبالرغم من غياب واضح للشّباب في هذا العــرس الانتخابـــي وكأنّــه فرض كفايــة، قام به البعض وسقط عن البعض الآخر ... 
وقد سقطت عديد الأحزاب والقائمات التي لها تاريخ سياسي، فالأحزاب العريقة فشلت في أن يكون لها موضع قدم تضعه في المشهد السّياسي، بينما قفزت أحزاب حديثة التّكوين إلى واجهة السّاحة السّياسيّة في ظرف زمنيّ قصير يجعلنا نتساءل عن سرّ هذا الفشل وهذه القطيعة بين الشّعب ونخبه السّياسية.
واليوم بعدما أفصحت الانتخابات التشريعيّة والرّئاسيّة عن نتائج قد لا يستسيغها البعض وقد تشكّل صدمة لبعض الوجوه السياسية من حيث كونها نجحت في إعادة إنتاج منظومة قديمة غيّرت ثوبها وعادت إلى السّاحة بأدوات قديمة جديدة بمعاونة الإعلام الذي عمل على هرسلة هذه الأحزاب العريقة ونجح في تنفير الناس منها .. والمدهش في الأمر أنّ هذا الواقع الجديد يجعلنا نرتدّ اليوم على مسلّمات لم تعد مستساغة في ظلّ التحوّل الجديد ومن ضمن المفاهيم المسلّم بها : مفهوم «الشّعب» وشعار «الشعب يريد» فما معنى لفظة «شعب»؟
تاريخيّا نقول أنّ الشّعب حاجة أساسيّة لترسيخ الدّيمقراطيّة أمّا اليوم فنحن نقف أمام أزمة تمثيل فمن يمثّل الشعب؟ هل نحن أمام قطيع غائم رجراج لا وجود له؟ وهل أصبحت فكرة الشّعب استعارة أو مجاز؟
إن مجموع الأفراد يجدون أنفسهم في أحزاب سياسيّة سرعان ما ينتقلون بسرعة إلى أحزاب أخرى في واقع متغيّر تذوب معه كلّ القناعات وتتبدّد . ولأنّ الاستقرار عند الشّخص «الوصولي» يساوي الانتحار، فإنّ ما يسمّى بالشخص «المسيّس» يستفيد من الحراك الشعبي الذي يضغط على رجل السّياسة، فإمّا أن يرضخ له أو يخسر تعاطفه. 
إنّ الشعب الأثيني الذي نشأت معه فكرة الشعب وفكرة الدولة والذي يتحرك في الساحات والميادين العامّة، أصبح اليوم غير موجود وعليه فالفكر السّياسي يقول لنا اليوم أنّه لا وجود لشعب بل هناك أشخاص يعيشون مع بعض . والأهمّ أنّهم أشخاص ينتمون إلى مشروعين مختلفين يتقاطعان، مشروع الثّورة وضديدها. هناك صعوبة في تحديد مفهوم الشّعب الذي بدأ يأخذ في التشكّل بعد الثورة.
إنّ كلمة «الشعب» بالمعنى الجمعي وكصورة للمجتمع الديمقراطي أصبحت تعني اليوم الأمة / الطبقة أو القبيلة ... وهو ما ظهر جليّا في الحملات الانتخابيّة بين شمال /جنوب وغيره.
إنّ صعود بعض الطغاة لا يمكن أن يتمّ لولا ضعف الحراك الجماهيري الثّوري المستجيب لمقتضيات المشهد السّياسي أو عدم ملامسة الواقع . فعند عجز الحركة الثّوريّة عن إيجاد البديل السّريع الموافق لتطلّعات الشّعوب الثّائرة، يتمّ إقصاؤها عن ريادة القرار أو احتواؤها وتدجينها وما موقف الجبهة الشعبيّة الثّائرة عبر تاريخها إلاّ تساؤل يثير الاستغراب.
أمام كل هذا تصبح الثّورة غير محميّة بل مغدورة لأنّها لم تستطع أن تكوّن لها حزاما يحرسها من خطر الالتفاف على مكاسبها. حينها يكون المتسلّط قد جهّز خطابه الذي ستمتصّه الشعوب دون وعي كمهدّئ لأوجاعهــا وظروفها المعيشيّــة الصعبــة. عندئذ نتساءل ما هو المرجـــع الذي نستند إليه في «ديمقراطيّة عرجـــاء» لا وجود فيها لمثقف رائد أو لرأس سلطة بأنموذجين مختلفين في الرؤي والأفكار والتوجهات.
وإذا كان الانتخاب دليلَ مواطنة فما دور النّخبة؟ لماذا تآكلت في صراعاتها الإيديولوجيّة وغيّبت أهميّة الثّقافي في مواجهة السّياسي؟ ولماذا تقطع الشّجرة من أجل اقتطاف الثّمرة؟
هل يمكن القول بعد ظهور النتائج أنّ هذا الشّعب جاهل لا يصلح للدّيمقراطية؟
إنّ السّؤال يحمل شكل الإجابة، فالديمقراطيّة في مجتمعات استهلاكيّة معاصرة هي «حرّية العبيد في اختيار أسيادهم» كما يقول «هربرت ماركوز» وعليه يمكننا القول أنّ الشّعب الذي اختار جلاّده لا يستحقّ الحرّية. لقد ماتت السّياسة بمفهومها القانوني والأخلاقي وصارت الايديولوجيا السّياسيّة مرهما للمفقّرين والجائعين الحالمين برغيف خبز وبعض من الحرّية، بل غدت السّياسة أفيون الشعوب وصار الشعب عشبا يأكله الآخرون. صارت بصيص أمل لفقير مشرّد وسردابا مظلما يدخله السّياسي من نفق لآخر وبينهما يمتدّ ظلام حالك يحاك من وراءنا نحن الذين نحبّ هذا الشّعب، خاصرتنا نازفة ونركض من وجع في ليل يوسّعها الخوف ممّا نخاف.
«سنقف على ناصية الحلم ونقاتل» يقول محمود درويش. وما علينا سوى أن نبني وعيا جديدا يقطع مع الإقصاء والاستئصال والتصادم الإيديولوجي حتّى نعيد تشكيل السّياسي في عصر معولم يتقاطع مع الايديولوجي وجراحاته المستمرّة.
-------
-  كاتب من صفاقس
tarhouniali01@gmail.com