مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
التنمية من الحيلولة دون الفساد وصولا إلى تجفيف منابع الإرهاب
 ما ينتظرنا كتونسيين بعد أن أسدل الستار على المسار الانتخابي هو اهتمام مشترك بالمسألة التنمويّة تتوحّد فيه كل مكونات المجتمع السّياسي والمجتمع المدني باعتبارها أم المسائل وأولى الأولويات ولعلّه من المفيد الانطلاق من مسلمتين أساسيتين الأولى أن «لا تنمية مع استشراء الفساد» والثّانية أنّ «التّنمية تجفف منابع الإرهاب».
فالمسؤوليّة الوطنيّة تفرض مواجهة الفساد تحديدا لمعالم مستقبل وطننا إذ لا معنى للمواطنة بدون اهتمام بمستقبله فالانتماء عنوانه الاهتمام ولا انتماء لمجموعة بشريّة بدون اهتمام بأمرها، فمن لم يهتم بأمر مجموعة ما  ليس منها.
والمسؤولية الوطنيّة تفرض على النّخب السّياسية أن تكون صادقة في استهداف الفساد (الذي كلفنا عشرات المليارات من الدنانير) حتى يقدر مجتمعنا على تحقيق تنمية يرفع بها تحديات البطالة والفقر والتفاوت الجهوي وقد  أصبحت هذه التنمية أكثر إلحاحا من أي وقت مضى خاصة وشبح الإرهاب والهجرة السّرية والانتحار يهدّد آلافا من شبابنا.
أما ملامح اختيار منهج تنموي فأهم ما يحددها استحضار أنّه لا تنمية بدون مشاركة شعبيّة سياسيّة ومدنيّة لمواجهة الفساد باعتبار أن لا تنمية بوجود الفساد وذلك حماية للجميع من الاكتواء بناره ولنا في قصة  «ذي القرنين» مع سكّان القرية التي مر بها ومنهجه منعا لفساد «يأجوج ومأجوج» التي ذكرت في سورة الكهف خير نموذج.
ففي هذه القصة طلب أهل القرية من «ذي القرنين» أن يقوم بإنجاز سدّ بينهم وبين مفسدين في الأرض عرفوا بـ «ياجوج وماجوج» مقابل خرج (مقابل) يجعلونه له، فما كان من «ذي القرنين» إلاّ أن رفض ذلك معتبرا أن ما مُكّن فيه خير ممّا عُرض عليه، طالبا إيّاهم إعانته بقوة المشاركة وإتيانه «زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا»( الآيتين 96 و97 )
ويمكن من خلال هذه القصّة استخلاص عبر كثيرة ودروس عديدة تنير الدّرب وتساعد على رسم خارطة طريق التّنمية سواء تلك التي تخص المواطنين(أهل القرية) أو تلك التي تعنى بماهيّة مهندس العمليّة التنمويّة ومهمّته بالتّحديد والسّياسة التي سيتبعها في مواجهة الفساد باعتبار أن لا تنمية مع الفساد.
من هذه الدروس نذكر :
(1) وعي كل المواطنين (أهل القرية) بالفساد وبمن يقف وراءه وهنا لوسائل الأعلام وأدوات التواصل الاجتماعي دور في نشر ذلك الوعي على أن لا يصيبوا قوما بجهالة فيصبحوا على ما فعلوا نادمين
(2) حرص من يطلب منه قيادة العمليّة التنمويّة على منع الفساد وذلك بتشريك من طالبوه في التّصدي له نظرا لما يمثله من «سرطان» للجسم التّنموي.
(3) تحرير المشكّلين للوعي العام من أسر المفسدين الذين من شأنهم أن يرشوهم حتى يوهموا الرأي العام بأن دورهم ينتهي بمجرد اختيار من سيقودهم.  
(4) تكريس استقلالية القضاء حتى لا يشكل غطاءا للفساد والمفسدين وحتى لا يحول بين الفاعلين التنمويين وبين معرفتهم للمفسدين.
وعلى من يختاره المواطنون لزعامة مواجهة الفساد بعض المواصفات منها :
(1)  تحليه بالتّرفع عن قبول العمولات وبإرادة عدم العلو في الأرض وكذلك عدم الفساد فيها.
(2) عدم قبوله للعطايا مقابل التفرّد بمواجهة الفساد وأهله.
(3) توفّر القدرة لديه على إدارة معركة مواجهة الفساد وعلى حسن توظيف كل الكفاءات والقدرات التنمويّة المتوفّرة وكذلك صناعة قدرات إضافيّة للنّجاح في ذلك.
(5) أهمية إقامة سدّ بين جميع فئات المجتمع وبين المفسدين بأبعاده الثلاث النفسيّة والذّهنية والاجتماعيّة.
فنظرا لوجود روافد متعدّدة تغذّي الفساد فإنّ الحيلولة دونه تكون من خلال إقامة سدّ يحول دون إمدادات تلك الرّوافد سواء الأخلاقيّة منها أو التّشريعية أو في مستوى التّصورات وكذلك الحاضنة الاجتماعيّة التي تحافظ على استمراره وعت ذلك أم لم تع. 
(4) إتّباع سياسة المراحل في عملية إنجاز السّد الذي يحول دون اكتواء أفراد المجتمع بنار الفساد والمفسدين. 
وإذا أردنا تناول الموضوع استراتيجيا، وجب الانطلاق في مشــروع تربــويّ ثقافيّ علميّ يعنــى بالأطفـال والشّباب ويؤصل في نفوسهم معاني الصّلاح وقيمة الإصلاح كرسالة تضمن كرامــــة الفرد ووحــــدة المجتمــع وسلامة الوطــــن ومناعته ويحصنهم من الفساد نفسيّا وذهنيّا، وأحسب أنّ هذا المشروع مسؤولية مكوّنات المجتمع المدني مجتمعة وكذلك مسؤولية نواب الشّعب في أقامة منظومة تشريعيّة تحول دون استمرار الفساد وتشجع في مقابل ذلك على الصلاح والإصلاح.
وأمام تصاعد المتطلبات التنمويّة ومحدودية الجهد في مستوى الفعل، الواعي الحقيقي والأصيل، سواء على المستوى النظري أو على المستوى التطبيقي تجد فئات عريضة من الكفاءات التونسيّة نفسها أمام مسؤوليّات تاريخيّة لإعداد دراسات تنمويّة تنطلق من الواقع الجديد الذي تشكّل منذ اندلاع ثورة الحريّة والكرامة وتحسن استثمار الحالة النفسية والذهنيّة النوعية للتونسيين والتونسيات والتصالح الذي حصل بين مؤسسات المجتمع لتجسيد التصورات الجديدة للتنمية التي من أهم مميزاتها :
(1) القطع مع اعتبارها مجرد زيادة كمية في الإنتاج دون أن تنفي الحاجة لتلك الزيادة.
(2) القطع مع اغتراب الإنسان الوجداني والوجودي.
(3) ضمان حقوق الإنسان في الحرية والعيش الكريم
(4) توفير شروط الحياة الطيبة للإنسان على مستويات الصّحة والتعليم والرّزق والأمن
وتجاه عدم تناسب الجهد على مستوى الدراسات والتطوير وحجم بعض الصناعات الضروريّة للعمليّة التنمويّة وما يترتب عنه من ركود طبيعي لهاته الصناعات، كصناعة التمويل الإسلامي على سبيل المثال خاصة مع توفر الأصول لهذه الصناعة وتناغم معتقدات المواطنين مع هذا النوع من التمويل، نرى أنّ على الباحثين الجامعيين وبالتّعاون مع المهنيين الماليين الاشتغال على هذا الموضوع حتى يوجد ذلك التناسب المفقود.
وكما حصّنت الثورة وعينا السّياسي، فمن حقّ مجتمعنا اليوم أن يحصّن وعيه التنموي وممارساته وذلك بما يراعي:
* مبادئه كمبدأ العدل والحق مثل «عدم أكل أموال الناس بالباطل» فبالعدل يؤسّس العمران والظلم مؤذن بخرابه وبغياب الأول وحضور الثاني فشلت التجارب «التنموية» السابقة.
* أسس معاملات أفراد المجتمع كالحفظ والعلم لأن هذين الشرطين محددان لنجاح من هم  في مواقع النّظر والإنجاز التّنموي.
 * دعائم علاقات مكونات المجتمع كالصّدق والأمانة لنعلي من المصداقيّة التي تعمّق الثّقة بين مختلف المتدخّلين في المجال التّنموي والذي في غيابها تتعطلت كثير من المشاريع التنموية كما أن تمكين من لا أمانة له يكلفنا كثيرا على حساب العمل التنموي.
كما أن الضّرورة التّنموية تدفع إلى إجراءات نوعية من بينها :
(1) إيجاد بدائل، متميّزة واضحة ودقيقة ،تكون متناغمة مع أصولنا الفكريّة ومتناسبة مع التطورات الواقعيّة التي يشهدها العالم اليوم في مجالي الاقتصاد والتنمية.
(2) تجاوز حدود الدّراسات المعتمدة وجعل الدّراسات البديلة ذات دلالات أعمق وجاذبيّة أقوى لفئات أعرض حتى تهتمّ بالجانب التنموي في الحياة وتساهم في تطويره.
ونحسب أن إقامة سدّ نفسي وذهني على مستوى الأفراد وتشريعي واجتماعي على مستوى الدولة والمجتمع، سيحول حتما دون الفساد ممّا يوفّر للعمليّة التنمويّة موارد ضخمة من شأنها محاصرة الفقر وإحداث مواطن شغل وتحقيق التّوازن الاجتماعي والجهوي المنشود الأمر الذي من شأنه أن يجفّف منابع الإرهاب النّاتج أساسا عن انحراف في العقيدة وغلو في التّصور وثغرات في التّشريع وانتشار للفقر والبطالة وتفاوت اجتماعي وجهوي صارخ.
-------
-  رئيس مركز الدراسات التنموية
najmghorbel@gmail.com