تأملات

بقلم
يسري بن ساسي
خارج السياق
 لازلنا لا نفقه أي نشوة وغبطة يمكن أن يجدها شعب  أكثر من شباب يافع لعلّه دون الثلاثين من عمره أن يكون ممثّله قد  ناهز التّسعين من العمر أيّا كانت الشّخصيّة وليكن مانديلا نفسه.. فإذا كان مانديلا قد أحسن قيادة المرحلة التي ناسبت ملكاته ومؤهلاته ومواهبه كقائد فأجاد وأفلح- ومن الأكيد أيضا أنّه زلّ بعض المرّات وأخطأ-  فذلك لا يعني أن يصلح قائدا لكل مكان وزمان... والأنبياء ذاتهم أدّووا رسالتهم التي أوكلت إليهم وما صلحوا في ما أنيب إليهم من أمانة وما وضع على عاتقهم من حمل إلاّ في الجيل الذي جاؤوا من أجله والقوم الذين بعثوا إليهم رسلا .. 
وما رأيت قائدا ألهمنا في كل حين وجيل سوى سيد الخلق المصطفى الكريم خاتم الأنبياء والمرسلين. وحكمة الإسلام أن أوكلت الرسالة إلى كهل شابّ أتمّها بعد عشرين سنة وتلك الفترة هي أوج ما يكتمل فيه رشد الإنسان، فيكون على أهبة الاستعداد لتبليغ عصارة رسالته في الحياة ولو كان من الحكمة والمصلحة أن يمدّ الله في عمر نبيه الكريم ليقود ويحكم لما كان ذلك على الله بعزيز.              
  إنّ سنة الحياة أن يعطى المشعل للفتوّة لتوقظ طاقاتها وتكشف مواهبها في القيادة على هدى من نصح وتأطير ممن مخضتهم التّجربة وعركتهم الحياة...أليس علينا إذّاك أن نقلق..أليس علينا أن نحتار..بلى علينا أن نقلق ونخشى المستقبل، لأنّ قلب شبابنا ميّت أو يكاد.. يكاد يوارى الثّرى ويفيض قلب شيوخنا حياة، يفتك من شبابنا فرصته في الإبداع وفي الوجود وفي تحقيق ذاته .... شباب متسمر.. شباب بلا حراك.. بلا رؤية.. بلا أطروحة.. بلا فكر.. بلا جديد ... شباب في مقتبل العمر لا يرى حلّ مشاكله بيده ويفوضها إلى من بلغوا من العمر خريفه، ليمهدوا له السّبل ربيعا مزهرا.. ألا من مهّد ربيع هؤلاء، إن جاز أن نسميه ربيعا، ألم يمهدوا ربيعهم بأنفسهم..  
نحن لا نعيب شيوخنا فالعيب فينا نحن الشّباب ..ننتظر دائما حلاّ ما ..معجزة ما ..منقذا ما.. ننتظر أن تساقط السّماء مشاريعا وبرامجا ومخططات لمستقبلنا ومستقبل أولادنا وأحفادنا، فكيف هلّلنا وصفّقنا ورقصنا ولم يستفزّنا أنّنا في الحقيقة عاجزون عن إيجاد بدائل كثيرة ..لم يستفزّنا أنّ الحاصل استهتار بعقولنا.. بصوابنا وبطاقاتنا ..لم يستفزّنا أنّ الحاصل استخفاف كبير وضحك على قدراتنا في الإدارة وخلق الحلول واستنباط المنافذ. لم يزعجنا البتّة أنّنا غيّبنا عن الوعي الجماعي والمشاركة في القرار فيما سبق ونغيب الآن بمحض اختيارنا وإرادتنا ..بل إنّنا في الحقيقة مسلوبو الإرادة والاختيار ..لأنّ من يختار يأخذ بزمام أمره ويستلّ عزمه وحزمه في الحياة ليثبت أقدامه فيها ويحقق مطامحه ويؤكد وجوده ... أمّا نحن فنعبث في الحياة ..نعيش على هامش الأجيال التليدة ويعبثون هم  بمصيرنا  ويقرّرون عنّا المصير والطريق وكيف يكون السّبيل ..ألهاته الدّرجة نحن شباب خاو ذاو على عروش الفراغ والإهمال والتفاهة..
 والحال أنّ القائد والملهم كان لابدّ أن يكون منّا وفينا.. منّا.. ممّن دفع بعمره وجسده ثمنا لحريّة أهرقناها وأهدرناها عبثا .. الأدعى ربمّا أن نخجل من أنفسنا.. فالنّاظر إلى مقاهينا ليس يرى سوى شباب خامل يائس فارّ من الواقع، يقتل الوقت أحلامه رويدا رويدا و يسلبه الحياة ... 
هل تساءلنا لماذا قد وضعنا بين خيارين لا ثالث لهما.. هل عقرت بلادنا أن تنجب قادة حقيقيّيــن.. لماذا اضطررنا للنّبش في حقبات الماضي الدّفين لنصنع التّوازن كما ندّعي ..لأنّه وببساطة قد كانت آلة القمــع من الخبث والمكر بحيث استغلّت أكبر طاقات البلاد للعمل لحسابها وكانت هذه الأخيرة من الطّمع والخوف ما جعلها تتورّط في الفســـاد بأنواعه وإلاّ لتعددت الخيارات وكانت أكثر بكثير إقناعا.. قد جفّت منابعنا وقحلت أرضنا إلى درجة أنّنا نكــاد نستجدي القبور حلولا ومخارجا علّها تنجدنا وتفك أزمتنــا.. كان الاستبداد أيضا من الخبث والمكر بحيث ميّع الشباب وسطح فهمهم وشغلهم عن واقعهم بتيسير سبل الهروب والتنطع من المسؤوليّة ...لا أدري بعد ذلك وهذا حال شبابنا إن كنّا في عداد الشّعوب التي تضجّ عطاء وحياة أم نحن في الحقيقة في عداد الشّعوب الميتة ولم تكن تلك الاستفاقة القصيرة سوى أضغاث أحلام .
لماذا يعجز شعب مثلنا أن يصنع قادة بتلك الجدارة والصلابة التي تحتاجها المرحلة ويحتاجها السّياق ..سياق الثّورة أو ما سمّي بالثورة ..لماذا لا شيئ يكتمل في أوطاننا ..لا شيئ ننجزه كما ينبغي ..لا شيئ نتقنه سوى الخروج عن النّص والسياق ..لماذا نحن شعب كثير النّسيان ..لم ييبس دم الشّهداء في المثاوي ولا جفّ دمع الثّكالى في المآقي ونسينا وتمادينا في التّجاهل والنسيان واللاّمبالاة وهكذا في الحقيقة نشرع من جديد في حفر قبورنا بأيدينا ولسنا نتمنّى إلاّ أن نكون مخطئين مبالغين.. 
  القائد في الحقيقة ليس مجرّد منظّر أو مثقّف أو أكاديمي..لعلّه يحتاج كل هذا الزّاد، بيد أن ذلك لا يصنع قائدا .. القائد شخصيّة لها من قدرة التأثير والإقناع  بصواب القرار ودقّة التّوقيت ما يجعلها تمتلك طاقة رهيبة  في الدّفع نحو الأمام.. شخصيّة مضيت لها الظّروف الذّاتيـــة والجماعية حثيثا لتخطّ دروبا للخلاص والنجاح.. القيادة موهبة وتربية وصناعة. موهبة من الأكيد مطمورة هنا أو هناك .. لكنّها أيضا صناعة جماعيّة لازلنا أبعد أن نجيدها، وتربية لسنا نرى إلاّ أنّنا نتفنّن في عكسها .. وقس على ذلك ثقافة التّرهيب والتخويف التي لا نلقن أولادنا سواها، فكيف إذّاك نستغرب أن لا يطلّ علينا القائد البطل والملهم الشجاع.. وقد نبشنا الآن في حقبات الماضي لصنع توازن ندّعيه والسؤال أين سننبش بعد ذلك..هل سنستورد قادتنا وصانعي قرارنا أم يقع على عاتقنا وذلك أضعف الإيمان، أن نستفيق للجيل الجديد الصّاعد من مراهقين وأطفال، عسانا نربّي فيهم ملكة الرّيادة وروح المبادرة وبراعة القيادة..