قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
غير مرغوب فيهم
 (1)
رُوي أن الشيخ «حسن الترابي» حين كان رئيسا للبرلمان السّوداني، التقي الرئيس «فرنسوا ميتران» في باريس وكان الحديث يدور عن السّودان ولكنّه تشعّب ليصبح حديثا عن الإسلاميّين وتجربتهم في الحكم، وأصرّ الرّئيس الفرنسي على أنّ الانقلاب الذي قام به الرئيس «البشير» بمعاونة «التّرابي» كان انقلابا غير شرعيّ أسقط حكومة منتخبة بشكل حر.
وكان دفاع «التّرابي» حادّا حيث ذكر لمضيّفه أنّ الاسلامييّن جاءوا بطريق الثّورة  في إيران فحوصروا وأصرّ الغرب على حصارهم و ظلّ يحاول إسقاطهم باستمرار وأنّه لولا يقظة الشّعب الإيراني وما توفّر لدى الايرانيّين من إمكانيّات مادّية لكان بإمكان الغرب إسقاط الحكم الإسلامي هناك، ويكفي أنّ الغرب ما انفكّ يفتعل الأزمات للنّظام الإيراني ومنها ما كان مدمّرا حقّا وخاصّة حربه الطّويلة مع العراق .
وذكر «التّرابي» للرّئيس الفرنسي في اللّقاء نفسه بأنّ الجزائر أجرت انتخابات ديمقراطية تعدّدية لأوّل مرّة في تاريخها في أوائل التّسعينات، وهي انتخابات حصلت إثر أحداث دامية وفي أعقاب عقود طويلة من الاستبداد وحكم الحزب الواحد، ولمّا كانت حصيلة تلك الإنتخابات اكتساحا للإسلاميّين في الدّور الأول فقد جرى إلغاء النّتائج والانقلاب على الرّئيس «الشاذلي بن جديد» ووضع البلاد في طريق الحرب الأهليّة  .
استخلص «التّرابي» من المثالين ومن مثال السّودان خلاصة مفادها أنّ الإسلاميّين غير مرغوب فيهم بأيّ طريقة، أتوا بالثّورة أو بالدّيمقراطية أو بالانقلاب، وعبثا حاول إقناع الرّئيس الفرنسي بضرورة تغيير طريقة التّعامل مع الإسلاميين، وعلي أيّ حال فإنّ الغرب لم يغيّر نظرته للأمر رغم الجهد الذي ما انفكّ يُبذل.
(2)
على امتداد رقعة البلاد الإسلاميــــة تمتدّ رقعة الحركات والتجارب الاسلاميـــة، وإذا قفزنا على معطيات التّاريـــخ وتركنا جانبــــا الإرث التّاريخـــي والمعرفـــي لكلّ هذه الحركات والتّجارب بدءا من مدارس علم الكـــلام  وصولا الى الجماعات والاحزاب الإسلاميّة الحديثــــة واكتفينــــا فقط بتجلّيات الحديث منها في الواقع الرّاهــــن، فإنّنا سنلمس بونا شاسعا بين تجربة «طالبان» في باكستان وتجربـــة «أردوغان» في تركيــــا وسندرك بالتّأكيد أنّ مـــا أرادتـــه «طالبـــان» لم يكتمل، وأنّ ما يريده «أردوغان» قد لا يكتمـــل فضلا عن عوامل التّطرّف في أقصي المثالين، وأين وجه المقارنـــة بين تشدّد «طالبان» وتشدّد «داعش»؟ وأين مرونة التّجربة التّركيّـــة من شدّة مرونة تجربة «النهضة» التونسيّة حتى صار البعــض يكاد يُخرجها من دائرة التّعاطي مع تجربتهـــا باعتبارها تجربة إسلامية، ويكفينا في هذا الصّـــدد مـــا يقوله عنهـــا «حزب التحرير» في نسخته التّونسية ؟
إنّ كثرة التّجارب الرّاهنة وكيفية تعاطيها مع واقعها وما حفّ بها من فشل يدلّ على الثّراء والتنوع وعلى أنماط متعدّدة في مقاربة الواقع الذي نشأت فيه ولكنّه يدلّ أيضا على حجم هائل من القصور والتخبط مردّه القصور الواضح في التّأسيس لمشهد إسلاميّ جديد انطلاقا من فهم حيويّ للنّصوص الدّينيّة من قرآن وسنّة ومن نمط جديد في التّعامل مع الإرث التّاريخي للأسلاف بعيدا عن التمجيد والتحنيط  وبعيدا خاصّة عن احتقار الذّات الرّاهنة ومصادرة حقّها في التّفكير والابداع، بداعي أنّ الأوّلين لهم السّبق في الفهم الصّحيح لأنّهم كانوا معاصرين أو تابعيين للرّسول الكريم صلى الله عليه وسلّم.
(3)
سيظلّ الغرب غربا استعماريا متسلّطا ولن يترك للشّعوب التّائقة للحريّة والكرامة أيّ فرصة للنّهـــوض من جديــــد، ليس لأنّه عدائي بطبعه ولكن لأنّه يجعل من مصالحــه ومصالح شعوبه هدفا أسمى لا يدّخر جهده  في سبيـــل تحقيقه ولا يترك وسيلة من وسائل القوّة التي يملكهـــا إلاّ استعملها في سبيل  فرض هيمنتـــه على شعوبنـــا. ولا نشــكّ أبدا في أن هذا الغرب لا يلتفت إلى مستعطفيه ولا يحصــى ضحاياه بل ولا يهتمّ لمعاناتهم أصــلا، وإنّما يهتمّ فقط لمعانات أفراده  وسيظلّ هذا الغرب غير مرحّب بالإسلاميّين بأيّ طريقة جاءوا، غير آبه بتنوّعهم، فهم عنـــده سواء أكانوا علي يميـــن «طالبـــان» أو كانوا على يسار «حركة النهضــــة» أو تركيا الحديثــــة فكلهم أعداء مع فـــارق العداوة وحجــــم التأثير.
الغرب ليس غربا واحدا وغرب الأنظمة ليس كغرب الشّعوب وقد يكون باستطاعتنا في المدى القريب تحقيق أنماط من الاختراق تسمح لنا بصدّه والتّعاطي مع عدوانيته بمقاربات جديدة ،ولكن هذا الأمر ليس ملحّا في الرّاهن قدر إلحاح أشياء أخرى تضغط علينا الآن ولا مجال لتأجيلها وهي أشياء كثيرة تزداد إلحاحا كلما فشلت تجربة من تجاربنا، ولكن يهمّنا التّأكيد على واحدة من أشدّها إلحاحا وهي نزعة التّدمير الكامنة فينا والتي ركبتنــا من جراء استهتارنا بقراءة نصوصنا الدّينيــــة  والإلحاح في نمط من الغلوّ يجعلنـــا نلتفت إلى الماضــي فقط ونلحّ في استدعـــاء كلّ ما هو سيئ فيه والنتيجة واحدة تدمير مستمرّ لأوطاننا ولأنماط حياتنا واتكال على القوّة العميـــاء التي تأكل الأخضر واليابس ولعل في ظهور «داعش» خير دليــل.... وهل بعد تطرّفهـــا من غلوّ؟.
------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com