مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
لا معنى للخيار الديمقراطي إذا لم يكن خيارا تنمويا
 بات في حكم المقبول الخيار الديمقراطي لدى المؤسسات الدولية ولدى النّخب في عديد الدّول إلاّ أن ذلك الخيار لم يحضى بذلك القبول من طرف فئات عريضة من المجتمعات خاصّة الشّبابيّة منها وما عزوف جزء كبير من شبابنا في المحطّتين الانتخابيتين الأخيرتين التي عرفتها تجربتنا الديمقراطيّة الوليدة إلاّ دليل ساطع على ذلك فضلا عن نسبة المشاركة العامّة التي لم تصل حدّ الخمسين بالمائة من مجموع من يفترض أن يشاركوا في العملية الانتخابيّة.   
وإن وجدت تفسيرات لذلك مفادها أن عقود الحزب الواحد والزّعيم الواحد والإعلام الواحد لم تكن تناصر هذا الخيار إلاّ أنها تبقى غير كافية للوقوف عند باقي الأسباب التي أدت إلى هذا البرود تجاه هذا الخيار.
ولعل من أهمها محدوديّة الوعي الدّيمقراطي لدى كثير من نخبنا السّياسية للعمليّة الديمقراطيّة ذاتها وعدم القدرة على تجفيف منابع الفساد في الدّولة والمجتمع وبالتالي عقم الدّولة والمجتمع في إنجاب تنمية شاملة وعادلة ومتوازنة يحقّق من خلالها كل تونسي ذاته ويتمتّع من خلالها بحرّيته وتصان فيها كرامته وتلبى فيها حاجاته في الرّزق والصّحة والتّعليم والآمن.
معلوم أنّ السّياسة حين تحيد عن وظيفتها تكون النتيجة حتما تخلّفا وعدم تحقيق التّنمية في بلدنا.
فالسّياسة إنّما وجدت خدمة للشّأن العام وما تفرضه من اعتراف بكلّ مكونات المجتمع بعيدا عن التّقسيم أو التّصنيف أو الحسم كما نلاحظه من خلال تصريحات من هنا وهناك وكثير من السجالات والحوارات والتعليقات وكثير من المقالات.
 وما تعنيه السّياسة تبعا لما سلف حرص على وحدة المجتمع من خلال إيجاد مناخات التّعايش بين مختلف فئاته الاجتماعيّة وتحقيق التّوازن بين الجهات في ظلّ حرّية مؤسّسة واحترام للحقوق وحفاظ على المكتسبات.
ولم تكن السّياسة أصلا مناورات ومغامرات أو خدمة لفئة على حساب فئة أخرى أو صراع فريقين واتخاذ ثالث «كبش فداء» كما ذهب إلى ذلك بعض من نخبنا وإن كانت كذلك فهي ليست بالسّياسة بل سمها ما شئت.
وما أراه مجديا ليس تكريس ذلك الواقع عبر البناء عليه تصورات ومواقف ولكن التخلص من أسره والعمل على إعادة ألق العمل السياسي وتكريس نبل السياسة ذاتها وغرس الأمل في النّفوس بدل العيش في كابوس الفتن والدّسائس.
إن الالتزام بالخيار الدّيمقراطي هو الضّامن لتقدم بلدنا وتنمية مجتمعنا لا شكّ ولكنّ الخيار الدّيمقراطي لا يتوقّف عند العمليّة الانتخابيّة كما أنه لا يقوم على التّخويف من نتائج العمليّة الانتخابيّة ذاتها رغم تفهّمي للمخاوف التي تمسح جلّ القراءات للمشهد السّياسي ببلدنا والتي تجد مبرّرها في طول مدّة التّخويف التي كانت ممنهجة ومؤسّسة في عهد من قامت عليه الثّورة كما أن كثيرا من النفوس لا تزال تعيش على وقع ذلك التخويف ولم تتخلص بعد من تبعاته والتي زاد في تغذيتها تصريحات أشخاص كان يفترض أن يكونوا في مستوى عال من المسؤولية.
ما أراه أنّ ما تمّ من تجربة ديمقراطيّة ببلدنا باعث على الأمل على عكس ما ذهب إليه بعض من نخبنا فالمشهد الذي أفرزته الانتخابات التّشريعيّة مشهد متوازن إلى حدّ ما ومتنوّع إلى حدّ الثّراء وهذا في حدّ ذاته مبعث للأمل وعامل للاستقرار السّياسي باعتباره شرط رئيس لانطلاقة اقتصاديّة توفّر مواطن شغل تمتصّ جزءا من البطالة الجاثمة على قلوبنا وتزيد من الإنتاج لتفرز ثروة نحدّ بها من الفقر والحرمان ونستثمرها خدمة للصّحة والتّعليم.
وهذا الاستقرار حتما سيتعزز خاصة إذا استحضرنا حرص الكتلة الثانية «النّهضة» في مجلس نواب الشّعب على تحقيق أمرين اثنين :
(1) عدم سلوك منطق المعارضة المعيق والباعث لعدم الاستقرار والذي سلكه معارضوها وهي في الحكم وغذته أخطاء ارتكبتها.
(2) تعهّدها بالتّعاون واستعدادها للشّراكة في تحمّل أعباء الحكم والمساهمة في أمن البلد والنّهوض بالاقتصاد وتحقيق التّنمية كأولويّة في مرحلة الخمس سنوات القادمة.
أما نتائج الدّورة الأولى للانتخابات الرّئاسيّة فهي كذلك مشجّعة وباعثة للأمل بعيدا عن لغة التّخويف التي أراها من الماضي وغير متناسقة مع السّياق التّاريخي الذي نحياه رغم ما يحيط بنا جغرافيّا وبالتّحديد من جهة الشّرق.
 فنتائجها لم ترجح كفّة أحد عن الآخر بشكل قاطع وهذا في حدّ ذاته عاكس لتنوّع شعبنا وعدم انقياده لشخص دون غيره وهذه رسالة قويّة مفادها أنّه قد قطع بدون رجعة مع الانقياد إلى الزّعيم الملهم أو القائد المفدى وهذا عنوان بداية نهضة مجتمعنا.
من جهة ثانية عكست الدّورة الأولى من الانتخابات الرّئاسيّة تصالح السّياسيين مع الهموم الحقيقيّة لمجتمعهم ووقفوا عند حقيقة الأوضاع التنمويّة لجميع جهات البلد وهذه أيضا خطوة أساسيّة لكل عمل سياسي.
أما النظر من زاوية الاستقطاب لما أفرزته تلك الدورة وإلى مجريات الحملة الانتخابيّة للدّورة الثّانية والتي حمى وطيسها قبل أن يعلن بدايتها رسميّا والقراءة السّودوية لها من بعض نخبنا، أرى أنّها لن تكرّس إلّا الخوف من المستقبل وعدم الثّقة في الخيار الدّيمقراطي ذاته لذلك أجد نفسي ملزما بالتأكيد على ما يلي :
(1) أن المتنافسين الذين أفرزتهما صناديق الاقتراع يمثلّ كلّ واحد منهما اختيارا لأكثر من مليون تونسي وليس كلاهما شرا مطلقا أو خيرا مطلقا. وأمام هذا الاختيار لا يمكن للدّيمقراطي إلاّ أن يرى فيه نصرا لتونس.
(2) أن الحملة الانتخابيّة وإن حمى وطيسها هي ظاهرة صحيّة ولا تزيد التّونسيين إلاّ وعيا واهتماما بشأنهم السّياسي ومعرفة لمن سيصوتون له في الدورة الثانية وهذا في حدّ ذاته شرط من شروط نجاح العملية الانتخابية.
(3) أن إختزال مستقبل الوضع السياسي فيما ستفرزه صناديق الاقتراع وشخصنته إلى حد بعيد لا يتناسق مع التغيرات النّفسيّة والذّهنيّة التي عرفها الإنسان التّونسي منذ أربع سنوات وكذلك التّغيرات الهيكليّة الآخذة في التّشكل على مستوى الدّولة والمجتمع في آن واحد.
(4) أن مــن مكاسب الدّيمقراطيــة الوليدة في بلدنـــا تجــاوز تدريجيّا عقليّة الشّخصنــة وولــوج عقليّــة المؤسّسة والابتعـــاد عن هوى الأفـــراد نحو عقلانيّـــة المجموعات وكذلك التخلــص من منطق المغالبـــة والإقصـــاء إلى منهج التّنافس والشّراكة.
(5) أنّ التفكير يجب أن ينصب على مصلحة المجتمع وأفراده ككل وليس قواه فقط كما أنّ الضّامن الوحيد لتحقيق تلك المصلحة بعد الله ليس شخص الرّئيس المقبل بل هو تنافس التّونسيين جميعا في تحقيق تلك المصلحة وتدافعهم منعا للفساد مهما كان مصدره والحفاظ على قيمة الحرّية وتكريس العدالة وتحقيق المساواة بين جميع التّونسيين وبذلك نتجاوز الوعي السّطحي للخيار الدّيمقراطي ونلج عمقه متمثّلا في أنّ الحكم في حقيقته للشّعب كل الشّعب وليس للفئة التي انتخبت الرّئيس وما الرّئيس إلاّ معبر عن تطلّعات جميع أفراد الشّعب .
(6) أنّ القوّة الحقيقيــّـة ليست في شخص المرشّح الأوّل للرّئاسة على عكس ما ذهب إليه بعضهم بقـــدر ما هي قوّة إرادة المجتمع نحـــو التّغيير بأسلوب حضاريّ سلميّ كما أنّ اللاقدرة الحقيقيّة ليست في المرشّح الثّاني للرّئاسة وعلى عكس ما ذهب إليه بعضهم أيضـــا بل هي في عدم قدرة النّخب على القيـــام بواجبهم في تقريب وجهـــات النّظر بين الفرقاء السّياسيين والتزامهم بمنع كل منحنيات التّشرذم والانقسام والتناحر سواء بين السياسيين أو بين أفراد المجتمع الواحد.
(7) كفى شيطنة لكلّ من يصل إلى السّلطة بدعوى الدّولة العميقة أو قوى اليسار أو ما شابه، فماذا جنت البلاد من شيطنة التّرويكا حين كانت في الحكم؟ ألم تكن التّنمية والأمن هما المتضررين الرئيسيين! وهل تتحمّل البلاد هذا الأسلوب من التّعاطي مع من يحكم؟
(8) أنّه لا أحد قادر على أن يحكم وحده لأنّ حجم التّحديـــات لا يقدر عليها إلاّ كل التّونسييـــن متوحّدين فضلا عن أن فحوى الرّسالة التي توجّـــه بها النّاخبون في المحطتّين الانتخابيتّين الأخيرتين هي أنّ لا أغلبيّة لطرف دون آخر وما يعنيه ذلك من تزكية لأكثر من طرف لحكم البلاد.
 وهنا وكما توفّق نواب الشّعب في اختيار تركيبـــة تناسبيـّــة لرئاســة مجلــس نواب الشّعب تعكـــس نتائــــج اختيارات ناخبــــي 26 اكتوبر الماضي، فلماذا لا يعدّل الدّستور- وهذا من صلوحيات الرّئيس القادم عبر الآليات المنصوص عليها في الدّستور- ليصبح لدينا مجلس رئاسة متكوّن من الشّخصيـــن المتنافسين في الدّور الثّاني للانتخابات الرّئاسيـّــة خاصّـــة إذا كانت النّتائج تعكــــس تقاربا كبيرا في نسب التّصويـــت وبذلك نحافظ على المسار الدّيمقراطي ونتفرّغ جميعا للتّنميــــة ونحقّق بذلك مصالحة بين الجميــــع واستيعابا للجميع ونتجــــاوز بذلك حالة الاحتقان التي ستخلفها الحمـــلات الانتخابيــّــة ونقبر الأحقاد التي ورثناها من نظاميّ الحزب الواحد والاستبداد والفساد وإلى الأبد.
(9) أنّ القول بأنّ الغرب في مواجهة مع «الإسلام السّياسي» والاستشهاد بما يحصل في أكثر من بلد في عالمنا العربي والعمل على إسقاطه على واقعنا هو مغالطة وتخويف، فلا تجربتنا الدّيمقراطية مشابهة لتجارب تلك الدّول ولا إسلام بعض أحزابنا السّياسي كتلك الموجودة هناك وقد تأكّد ذلك التمّيز وتلك الخصوصية حين كانت «النّهضة»في الحكم أو هي خارجه.
(10) أن تصوّت لأحد المترشّحين أو أن ترمي بالورقة بيضاء في صندوق الاقتراع ليس ذلك بالمهمّ، بل المهمّ أن تشارك ويشارك أكبر عدد ممكن من التّونسيين في الانتخابات، لأنهم بذلك يشاركون في تكريس الخيار الدّيمقراطي كما يساهمون في صنع القرار السّياسي خاصة إذا وقفنا عند محدودية عدد المشاركين في الدورة الأولى من مجموع من يحقّ لهم التّصويت وعدم قيام ما يقارب مليوني ناخب بواجبهم الانتخابي.
(11)  أن تتبنى الخيار الدّيمقراطي لا يعني ذلك أن تكتفي بالمشاركة في الانتخابات بل أن تقبل بنتائجها كما أنه يعني أيضا أن تتعاون مع من سيختاره أكثر النّاخبين خدمة لحريّة التّونسيين وكرامتهم وتوفيرا لرزقهم وأمنهم. 
(12) أنّ المستقبل السّياسي ليس للأحزاب بل للشّعب التّونسي وما الأحزاب إلاّ عنصرا من عناصر المعادلة السّياسيّة وليست هي المحدّدة مستقبلا بل فئات المجتمع عبر أدوات وهياكل غير تقليدية وغير حزبية ومحركها في ذلك حريتها وكرامتها وكذلك رزقها وأمنها، فهذا الرّباعي هو الذي سيشكّل الحراك السّياسي المقبل وهو الامتحان الحقيقي لكلّ من يتصدّر المشهد السّياسي.
لقد شكّلت الحرّية محورا للعمليّة التّنموية برمّتها لدى الاقتصادي «آمار سيا صان» المتحصّل على جائزة نوبل للاقتصاد أواخر الألفيّة الثانية إلى حدّ اعتبار «التّنمية حرّية» معنونا كتاب له بذلك، كما شدّد القرآن الكريم على كرامة الإنسان وتفضيله ورزقه منذ أكثر من أربعة عشر قرنا «ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطّيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا»(سورة الإسراء الآية 70) وكذلك على محاربة الجوع واستتباب الأمن مقرنا تسليم النّاس بأحقيّة عبوديّة الله بما وفّر لهم من أمن غذائي وأمن من الخوف «فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»(سورة قريش الآية3-4).
 وعلى من وقع انتخابهم في مجلس نواب الشّعب ومن سيقع انتخابه كرئيس، إذا كانوا يريدون لسياساتهم أن تطاع من طرف الشّعب، أن يعملوا معا على احترام حرّية النّاس وحقوقهم ويصونوا كرامتهم تشريعا وتنفيذا وقضاءا وينهجوا منهجا يولد الرّزق والشّغل ويحاصر الفقر ويبسطوا الآمن لجميع التّونسيين بدون استثناءات حزبيّة أو من أي نوع كان إلاّ من يحمل سلاحا ضدّ التّونسيين والتّونسيات.
-------
-  رئيس مركز الدراسات التنموية
najmghorbel@gmail.com