الأولى

بقلم
فيصل العش
وإنها لملحمة حتى النصر
 «ننتصر أو ننتصر» ذاك هو شعار حملة الدّكتور محمد المنصف المرزوقي لاعتلاء كرسي الرّئاسة التّونسيّة. لكنّه أيضا شعار عدد كبير من التّونسيين المتعطّشين إلى الدّيمقراطيّة والحريّة والكرامة، أولئك الذين يطمحون إلى تغيير حقيقي يقطع نهائيّا مع عقود من الاستبداد والحكم الفردي ويفتح آفاق العيش الكريم لهم وللأجيال القادمة. إنّه شعار هؤلاء سواء انتخبوا الدّكتور أم لم ينتخبوه.
«ننتصر أو ننتصر» هو قدر أبناء أعماق تونس المنسيّة والمناطق الدّاخلية المهمّشة التي لم يتوقف قطار التّنمية بمحطّتها طيلة فترة الحكم البورقيبي والنّوفمبري على حدّ سواء ولكنّه أيضا قدر ثلّة من ميسوري الحال والمثقّفين وما تبقّى من الطبقة الوسطى الذين يبحثون عن الأمن والاستقرار ويحلمون بمدينة نظيفة تتوفّر فيها فرص الاستثمار والعمل والبناء ويطبّق فيها القانون.
وإذا استثنينا قافلة الانتهازيين المستفيدين من الوضع القديم من مثقفين وجامعيين وإعلاميين وسياسيين استأثروا بامتيازات «الدولة الوطنية الحديثة» وثلّة من رؤوس الأموال الذين يكفرون بالقوانين ولا يستطيعون العيش خارج عالم الرشوة والمحسوبية، ورؤساء الشُّعبِ والعمد وأعضاء لجان اليقظة و«الجواسيس» الذين كانوا عين الدكتاتور التي لا تنام وكلاب الحراسة الوفيّة لممثلي الطاغية في المدينة وفي القرية وفي الأرياف، وأولئك الذين ترعرعوا في عالم العبودية وعشقوه فلا يرون له بديلا ورضعوا من ثديي الذلّ دهرا فلا يرون في الحريّة إلاّ عدوّا مبينا،إذا استثنينا هؤلاء فإنّ بقيّة التّونسيين من أقصى الشّمال إلى جنوبها يؤمنون ولو بدرجات متفاوتة بشعار «ننتصر أو ننتصر». 
«ننتصر أو ننتصر» هو شعار الصّراع مع الدّكتاتوريّة ودولة البوليس وغياب القانون، وهو يعني تحقيق النّصر تلو النّصر مهما كانت المنازلة أو المواجهة أو الحدث. وتحقيق النّصر لا يعني في كل الحالات الفوز بل تحقيق الأهداف المرسومة ولو جزئيّا وعدم النكوص على الأعقاب، فهل حقّق من رفعوا هذا الشّعار النصر في كلّ المحطات السابقة؟ وكيف تبدو توقعات نتائجهم المستقبلية؟   
لم يكن التّونسيّون يعرفون طعم الانتصار حتّى روت دماء فلذات أكبادهم الأرض فكان الانتصار الأول لمّا فرّ الطاغية بجلده وتوجّه إلى منفاه خوفا من عقاب من سلبهم حريتهم ونغّص عليهم حياتهم طيلة 23 سنة كاملة ثم تتالت الانتصارات فكانت ملحمة القصبة وكان انتصار التونسيين الثاني عندما أجبروا ماكينة النّظام السّابق التي كانت تتحكّم في دواليب الدّولة على الرّضوخ لمطالب الشّباب المعتصم والموافقة على إجراء انتخابات لاختيار مجلس تأسيسيّ نابع عن إرادة الشّعب، ثم انتصر التونسيّون في الثالثة بالرغم من حصول اضطرابات عديدة كادت تعصف بحلمه عندما رفضوا الانسياق وراء دعوات التمرّد على المؤسّسات المنتخبة الآتية من اعتصام الرحيل بباردو، وانتصروا مرّة أخرى عندما انهى نوّابهم كتابة دستور يقطع مع الاستبداد، حصل حوله وفاق وطني مهّد لتنظيم انتخابات لوضع حدّ لمرحلة المؤقت، ثمّ جاء الانتصار في المرة الخامسة عندما أنجزوا الانتخابات التشريعيّة بتاريخ 26 أكتوبر 2014 بنسبة مشاركة محترمة ومن دون مشاكل كبيرة تذكر. وكان التونسيون دوما منتصرين في معركتهم مع الإرهاب برغم التّضحيات الجسام وقوافل الشهداء من مدنيين وأمنيين وعسكريين وذلك عبر تماسكهم وتلاحمهم ومساندتهم المطلقة لمؤسّستي الجيش والأمن الوطنيتين.
لقد حقّق التونسيون نصرا جديدا هذه الأيام بعد أن نجحوا في تنظيم انتخابات تشريعيّة ثم رئاسيّة في غضون شهر واحد بالرّغم من تعقيدات السّاحة السّياسيّة الوطنيّة والتّهديدات الإرهابيّة التي ما فتئت تعكّر صفو الجوّ العام بالبلاد. هذا الإنجاز العظيم لم يكن ليحصل لولا درجة وعي التونسيّين عامّة وجزء من الطّبقة السّياسية بأهمّية المرحلة وحساسيتها ورفضهم الانسياق وراء دعوات من هنا وهناك للذّهاب في اتجاه المجهول وحرصهم على تفادي النهايات السيئّة التي تعيشها الدول العربية التي شهدت انتفاضات شعبية ضدّ الأنظمة الدكتاتورية التي كانت جاثمة على صدورها.  
لقد أثبتت النّتائج التي أعلنت عنها الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات أنّ البلاد تسير في الطّريق الصّحيح وأنّ الحالمين بالدّيمقراطية منتصرون لا محالة. لقد ودّعت تونس حقبة 99.9 بالمائة نهائيّا ولم تعد هناك تلك الشّخصيّة الفذّة التي تجمع حولها كل فئات الشّعب طوعا أو كرها. فالمرور إلى دور ثان غير محسوب النتائج مسبّقا بين مرشحين اثنين من دون فارق كبير بينهما هو انتصار للشّعب لأنّه يعني أنّ الكلمة الفعليّة أصبحت للشّعب وأنّ القرار بيد التونسيين لا غير.
لقد أحدثت نتائج الانتخابات التشريعيّة التي أجريت منذ شهر زلزالا سياسيّا عنيفا بالبلاد وها هي نهاية الشّوط الأول من الصّراع على كرسي الرّئاسة تؤكّد حدوث هذا الزّلزال وأنّ هذا الزّلزال ستتبعه رجّات ارتداديّة عديدة ستغيّر وجه السّاحة السّياسيّة وتدفعها إلى واقع جديد قد لا يصمد فيه إلاّ القليل من السّياسيين. وهذا في حدّ ذاته انتصار مهمّ لأنّ ما حصل كشف القناع عن المتسترين بالثوريّة والمنافقين السّياسيين الحالمين بالمناصب والمكاسب العاجلة وميّز بين فسطاطين لا ثالث لهما واحد للحالمين بوطن يعيش فيه النّاس أحرارا متساوين والثاني للعاملين على وأد التجربة والقضاء عليها أو الاكتفاء بديمقراطيّة شكلية تقوم على مبدأ «قولوا ما تشاؤون وسأفعل ما أشاء».
سيكون التونسيون في امتحان مصيري وانتصار جديد بعد أيام معدودات عندما يحين موعد الدور الثاني للانتخابات الرئيسيّة الذي سيحسمون فيه أمر رئيسهم القادم لتنتهي إحدى حلقات البناء الديمقراطي في البلاد على أمل أن يتّجه الجميع بعد ذلك إلى العمل لأنّه من دون عمل لا يمكن بناء الوطن ولا يمكن توفير لقمة العيش للتونسيين ولا يمكن للديمقراطية الناشئة أن تصمد طويلا خاصّة وأعداؤها يتربصون بها صباحا ، مساءا وفي كل حين.   
أمّا صاحب شعار «ننتصر أو ننتصر» فأمامه طريق طويل وعر المسالك سواء فاز في الانتخابات أم لم يفز لأنّه إذا فاز واعتلى كرسي قرطاج سيكون أمام تحديات جسام أهمّها تحقيق وعوده الانتخابية وعلى رأسها استتباب الأمن وإعادة هيبة الدولة والحفاظ على المسار الديمقراطي ومناخ الحريات، أمّا إذا لم يفز فإنّ طريقه أصعب وواجبه تجاه التّونسيين الذين أعطوه أصواتهم أعظم، إذ عليه أن يستثمر هذا الالتفاف ليقطع مع التقسيم التقليدي للسّاحة السّياسية على أساس إيديولوجي ويصنع قوّة قادرة على صدّ كل محاولات الالتفاف على إرادة الشّعب ويواصل معركة القيم ورمزيتها التي بدأها في حملته الانتخابيّة ويفوّت فرصة الاستبداد أمام من نبذ أكثر من مليون مواطن تونسي وأقصاهم واستهتر بعقولهم واستخف بحريتهم واختيارهم ...
وانّها لملحمة حتّى النصر ... 
-------
-  مدير مجلّة الإصلاح
faycalelleuch@gmail.com