مقالات في التنمية

بقلم
فيصل العش
مقترحات في السياسات الاقتصادية لتونس ما بعد الثورة

 (أ) مقدّمة 

 

تطرقنا في العدد السابق إلى الحديث عن المسألة الاقتصادية في  محاولة لتحويل وجهة الحوارات الدائـــرة الآن بيـــــن المثقفين والطبقة السياسيــــة مـــن المواضيع المصطنعـــــة التـــي لا نـــرى أنهــا من أولويات المرحلة إلى أحـــد المواضيـــع الهامّــة التي يجب الخوض فيها كالمسألة الاقتصادية وطرح بعض الأفكار حول الرؤية الاقتصادية لتونس ما بعد الثورة، على أمل أن تكون مقدّمة لمشاركة أهل الاختصاص في هذا البحث قصد تعميقــــه وتحويلــــه إلى مشروع اقتصادي يكون بديلا  للنظام الليبرالي المشوّه الذي ينفّذ حاليّا في البلاد في استمرار لما كان عليه الوضع قبل الثورة. واقترحنا أسسا ومبادئا  يقوم عليها الاقتصاد البديل تكون أعمدتها الحرية والتشاركية واللامركزية في ظل دولة قوية لها مؤسسات ضامنة تعتمد القانون لتحقيق العدالة الاجتماعية. ثم تحدّثنا عن دور الدولة الضامنة لحقوق مختلف المتداخلين في الحقل الاقتصادي من خلال الرقابة الصارمة وحماية المنافسة ومنــــع الاحتكـــار في السوق و تشجيع الاستثمار وإنشاء المؤسسات الاقتصادية التي تقوم على مبــدأ التشاركيـــة سواء بين القطاع العام والخاص أو داخل القطاع الخاص نفسه وتنمية الهياكل الأساسية والمرافق العامة والمشروعات الإستراتيجية وحماية الفئات الفقيرة .

ومن أجل توفير انسيابية عمل المنظومة الاقتصادية وتحقيـــــق النهــــوض الاقتصــادي المنشــود، لابــــدّ من سياسات مالية ونقدية وتجارية واضحة المعالم ومتشبّعة بالمبادئ الأساسية التي ترتكز عليها المنظومة الاقتصادية حتى لا تتعارض مع الأهداف المرسومة وبالتالي تكون عائقا في طريق تحقيق أهداف الاقتصاد الوطني المتمثلة في النمو واستقرار الأسواق وتحقيق العدالة الاجتماعية. فما هي العناوين الأساسية لهذه السياسات ؟

 

 (ب) السياسة المالية والنقدية

 

من أهم السياسات المالية التي يجب أن تتبعها الدولة :

◄وضع الآليات الكفيلة للسيطرة على عجز الموازنة وعلى الدين العام في الحدود التي تضمن الاستدامة المالية وتقلل من مخاطر الاقتراض الداخلي والخارجي

◄ اعتماد مبدأ التقشف في نفقات الدولة وترشيد الانفاق الحكومي  لتكون السلطة التنفيذيــــة القــدوة فى هذا الترشيد، وذلك بالتخلـــص مــن المؤسســات التى تشكل عبئا على ميزانية الدولة دون فائدة تذكر مثل مجلس المستشارين، وبعض الأجهزة الأمنية، وتمويل الاعلام من صحف وإذاعات وقنوات تلفزية باعتبار الإعلام سلطة مستقلّة ، وكذلك التصرف فى معظم القصور والاستراحات الرئاسية والحكومية والتنقلات  الخارجية غير المجدية، وضبط شروط العلاج فى الخارج على نفقة الدولة.

◄تعديل طريقة إعداد وتنفيذ الموازنة العامة للدولة عبر تبنّي موازنات "البرامج والآداء" بطريقة تضمن مزيدا من فاعلية الإنفاق العام وتغيير أولويات هذه الموازنة على مستوى الإنفاق، لتعطى الأولوية لمجالات الصحة والتعليم والتنمية البشرية بالإضافة إلى إعادة هيكلة منظومة الدعم المخصص للطاقة والغـــذاء للرفــع من كفاءته الاقتصادية وتقليص تسرّب الدعم إلى غير مستحقيه.

◄ وضع الآليات الكفيلة لجعل موارد الإدارات المحلية ( البلديات، المجالس الجهوية ... ) مكمّلة للإنفاق الحكومي في ميزانية تنفيذ مشروعـــــات التنميـــة وتحسيــن الخدمات مع إرساء نظـــام مالــي لا مركزي على نحو يسمح بشعور المواطن بأهمية دفعه للضرائب من خلال المردود من الخدمات التي يحصل عليها.

◄  إعادة النظر في منظومة الضرائب على نحو يضمن تحقيق العدالة الضريبيّة ويزيد من الإيرادات العامة لمواجهة متطلبات الإنفاق المتزايد.

◄ ربط الدعم المقدم للمشاريع الصناعية وغيرها من القطاعات الاقتصادية بمدى توفيرها  لفرص العمل وحماية حقوق العمال، وتحقيق أولويات الخطط التنموية.

◄ تطوير نظام الرقابة المالية داخل وزارة المالية وفي المؤسسات العامة على نحو يحقق حماية المال العام وصرفه حسب البرمجة المصادقة عليها  مع تحقيق الاستقلال التام (المالي والإداري) للجهاز المركزي للمحاسبــــات باعتبـــاره الأداة الأساسية للرقابة على المال العام، وتمكينه من صلوحيات التعامل المباشر مع السلطة القضائيّة.

أمّا السياسة النقدية فإنها تقوم على ثلاث ركائز أساسية :

◄ تمكين البنك المركزي من استقلاليـــة تامّــة وحقيقيــة تحميه من تدخل الحكومة وتأثيرها على قراراته مع تطوير نظام رقابته على المؤسسات المالية بما يجنّب الاقتصاد التونسي مخاطر وأزمات النظام المالي في ظل اقتصاد السوق الحر.بالإضافة إلى قيامه بمهام ترشيد السياسة النقدية عبر دعم وحماية العملة الوطنية ومعالجة التضخم. 

◄ احتفاظ الدولة بملكية حصّة مؤثرة فى القطاع المصرفى تتناسب فى كل مرحلة مع درجة النمو الاقتصادى، بما يسمح بتوفير التمويل اللازم للصناعات والمشروعات الاستراتيجية التى تحجم البنوك الخاصة والأجنبية عن الانخراط فيها إما لأنها غير مربحــة أو لأنها تنطوى على مخاطرة. 

◄توفير الأطر التشريعية والرقابية والمحاسبية اللازمة لدعم البورصة لتوفير أعلى درجات الشفافية في المعاملات داخلها .

 

(ج) السياسة التجارية

 

إن تحفيز النمو الاقتصـــادي والانطـــلاق نحـــو اقتصــاد قـــادر على المنافسة في السوق العالمية لن يحصل إلا من خلال سياسة تجارية تشجع على المنافسة النزيهة وتوفر أرضية للإبداع والابتكار.

فبالنسبة للتجارة الداخلية والتي من خلالها يتم توفير السلع للمستهلكين في جميــــع أنحــاء الجمهوريــة فإن دعم وتنظيم حركتها تتطلب اتخاذ خطوات عملية وملموسة أهمّها :

◄ إعادة هيكلة القوانين المنظمة لشؤون التجارة الداخلية ووضع الإجراءات الكفيلة بتطبيقها بما يحافظ على حقوق التجار من جهة وسلامة وصحّة المستهلكين من جهة أخرى.

◄توفيــر الأســـواق المتخصصـــة لكــل مستــوى من مستويات التجارة، من خـــلال القطـــاع الخــاص، بما يتناسب مع ظروف وإمكانيات كــل قطــاع تجـــارى مع التزام القطاع الخاص بأهداف السياسة العامة للدولة ووضع الأطر المنظمة لتلك الأسواق والعمليات التي تجري داخلها سواء عند الدخول للأسواق أوالخروج منها مع  تفعيل دور الرقابة الحكوميــة وغير الحكومية على السوق لمنع الممارسات الاحتكارية والغش والتلاعب بالأسعار والجودة.

◄ تقوية دور جمعيات المستثمرين واتحاد الغرف التجاريــــة وجمعيـــات رجـــال الأعمــال وغيرهــــا من المؤسسات، في خلق قطاع متطور للتجارة الداخلية وتنميته بالإضافة إلى  توفير وتنويع مصـادر التمويل للعاملين بهذا القطاع وفق آليات جديدة تسمح للمؤسسات المالية والأجهــــزة المصرفيـــة بالتعامــل مع متوسطي وصغار التجار.

◄ بعث جهاز لتنمية التجارة الداخلية تكون مهمّته وضع الخطط الاستراتيجية والبرامج وإعداد الدراسات لتحفيز وتشجيع الاستثمار في قطاعات تجارة الجملة والتفصيل والعمل على أن تتحول الأسواق الداخلية لتصبح منظمة ومتطورة وتساهم في زيادة القدرة التنافسية والتوازن بين المنتجين والتجــار والمستهلكين.بالإضافة إلى تنظيم دورات تكوينية للعاملين في القطاع لتأهيلهم وتدعيم آدائهم طبقا للمعايير الدولية للتجارة الحديثة وما يتوافق مع متطلبات التجارة بالسوق التونسية  

◄ تنظيم قطاع التجارة الموازية والباعة المتجولين بوضع الأطر التشريعية والإدارية بما يضمن للبائع المتجول كيانا رسمىا معترف به من الدولة بدلاً من مطاردة الشرطة البلديــــة لـــه طــوال الوقت من جهة والقضاء تدريجيا على الانتصاب الفوضوي الذي يؤثر سلبا على القطاع التجاري من جهة أخرى.

وإدراكًا لأهمية التجارة الخارجية سواء من خلال عملية توريد السلع والخدمات التي يحتاجها الاقتصاد التونسي أو من خلال عمليات التصدير للمنتجات باعتبارها الطريق لتحقيق النمو الاقتصادي، فإن إعادة النظر في سياسات التجارة الخارجية أمر ضروري بما يسمح بزيادة قدرة تونس التنافسية في السوق العالمية وزيادة نصيبها من حركــــة التجــــارة إقليميًـــا ودوليًـــا. وفي هـــــذا السيــــاق نـــرى:

◄  ضرورة مراجعة سياسة التوريد من خلال تطوير نظام المواصفات القياسية التونسية حتى لا تكون السوق التونسية مرتعًا للسلع الرديئة ومجهولة المصدر. وهذا الإجراء ضروري لحماية الصناعة الوطنية من محاولات الإغراق المستمرة لأسواقنا من قبل المنتجات الأجنبية بالإضافة إلى ضمان استيفاء شروط السلامة والصحة في السلع المستوردة، لتجنب استيراد السلع الفاسدة والمسرطنة، والمتسببة في إصابة التونسيين بالأمراض.

◄ وضع السياسات الكفيلة بحماية المنتوج الوطني من الممارسات غير القانونية كالتقليد والتلاعب بالمنشأ ومن تكثـــف الــواردات ومن الممارسات غير المشروعة عند التوريد بتفعيل آليات الدفاع التجاري (المتابعة، الإغراق، الوقاية) من جهة والعمل على تغيير ثقافة الاستهلاك لدى أفراد المجتمع، وذلك بتنمية الحس الوطني لديهم بأهمية المنتج المحلّي.

◄ العمل على  الرفـــع من القيمة المضافة للصادرات التونسيـــة من منتوجات وخدمات ، بحيث يتم تعديل هيكل الصادرات على نحو تقلّ فيه صادرات المواد الخام، بينما يزداد نصيب الصادرات المصنعة ونصف المصنعة ( ضرورة أن يتحول نفطنا إلى نفط مثمن وبقيمة مضافة ومكرر.. لا أن يباع كنفط خام على سبيل المثال).

◄ولأن السوق التجارية العالمية تتميز بعدم الاستقرار والتذبذب في نسق المعاملات، فإن بعث هيكل مستقل للمراقبة والاستشراف أمر حيوي وتتمثل مهامه في متابعة هذه السوق والتفاعل السريع مع المستجدات الاقتصادية العالمية وبعث خلايا «يقظة» لمتابعة وضعية الأسعار العالمية، وإشعار المؤسسات التونسيات بالتوقعات والإحصائيات لاتخاذ الاحتياطات.