قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
مربط الفرس
 تتزامن الدورة الثّانية للانتخابات الرّئاسية مع ذكرى اندلاع الثّورة وكأنّنا بصدد إعادة النّظر في التّجربة برمّتها أو بصدد عمليّة تصحيح لا مفرّ منها. لقد اختار الشّعب التّونسي ومعه أغلب القوى السّياسية أن تكون الانتخابات وسيلته في التّغيير؛ وارتآي الجميع أن تكون حرّية المشاركة والتّنظم متاحة لكلّ الفرقاء على قدم المساواة؛ وانتهت كلّ الحوارات إلى إلغاء فكرة الإقصاء نهائيّا من قاموس السّياسية فى تونس.
اقتضى الأمر حينئذ أن يشارك الذين ثاروا والذين وقعت الثّورة عليهم؛ وفشلت كلّ محاولات الأمتار الأخيرة لإقصاء الطّرف الذي كانت ممارساته السّياسية والاقتصاديّة والثقافيّة سببا في الثّورة عليه؛ وعبثا حاول الأوّلون والآخرون فعل الشئ نفسه فقد اصطدم الجميع بسدّ منيع وخرج المارد من قمقمه.
إنّ تزامن الحدثين معا؛ حدث الانتخابات وحدث الاحتفالات سوف يجعلنا نعود من جديد كلّ إلى مربّعه وسوف يجد كلّ واحد منا نفسه فى الخندق الذي كان فيه منذ الأمس القريب؛ مع الثّورة أو ضدّها؛ ولن نحتاج بالتّالي إلى إقصاء أحد عن المشاركة مادام الفرز قد تمّ وانتهى بنا الأمر إلى نوع من صراع الإرادات الذي يحتاج الى الحسم ميدانيّا وعمليّا إمّا أن تنتصر الثّورة في ذكراها أو تندحر نهائيا لتصبح ذكرى عابرة وفاصلا قصيرا انتهي أمده وتأثيره. 
لن نجد فائدة فى استعراض الأحداث مجدّدا رغم أهمية ذلك فى تفسير كنهها ومخرجاتها إذ لم يعد خافيا على أحد أنّ المسار انحذر بالجميع ليصل الى هذه النّهاية التي لم يكن أحد من الرّاغبين فى التّغيير يتوقعها. وسوف يجد المؤرخون الوقت الكافي للتّدقيق والبحث والتّفسير ولكنّنا لا نستطيع رغم ذلك أن نقول أنّ المسار الذي اتّخذته الثّورة التّونسيّة مسار طبيعي وأنّ ثوّار الأمس أصبحوا بإرادتهم محشورين في الزّاوية لا يستطيعون بالكاد الدّفاع عن أنفسهم فضلا عن التّصدّي لكل هذا الكمّ الهائل من القصف؛ ويبقى من المهمّ التّساؤل عن سبب هذه المآلات الحزينة والتي تجعلنا نضع كل بيضنا فى سلّة هذه الانتخابات تحت شعار واحد مفعم بالدّلالات  ننتصر أو ننتصر؟
لا أحد كان يتوقّع انتصارا من الجولة الأولي؛ بل إنّ أكثر النّاس تفاؤلا اعتقد أنّ صعود مرشّح الثّورة للدّور الثّاني سوف يكون بحدّ ذاته إنجازا؛ وليس في الأمر مبالغة فقد تكالب الإعلام على هذا المرشح ليشبعه تشويها واصطفّ في معضمه مع مرشح آخر في حين بقي بعضه على الحياد رغم قناعته بأنّ الحياد في مثل هذا الأمر الخطير لا معنى له سوى الاصطفاف .
إنّ ما شاهدناه خلال الحملة الانتخابيّة وما جرى في أعقاب إعلان النتائج في التشريعيّة، يجعلنا نتساءل بقوّة إن كان بالامكان الحديث عن الحقّ في الاختيار الحرّ وعن تكافؤ الفرص فى حين يجري دفع الناس دفعا بشتى الطّرق نحو خيار معيّن من غير أن تكون لهم قوة إدراك تجعلهم حقّا يمارسون دورهم الوطني في المشاركة في خيارات البلد. إنّ المسافة التي تفصلنا عن الثّورة ليست بعيدة بالقدر الذي يتيح لمعضمنا النسيان ومن ثمّ فنحن تقريبا ما زلنا في مواقعنا الأولي لم نغادرها رغم كلّ اللغط الذي أثير من حولنا وهذا ما انعكس على النتائج حيث أخذ المناهضون للثّورة حجمهم وأخذ المناصرون لها حجمهم وتحدّدت أحجام المستفيدين واللامبالين .
إنّ من مميزات هذه الانتخابات وتلك التى سبقتها أنّها مكّنتنا من الوقوف على الأحجام الحقيقيّة لكلّ طرف رغم محاولات التوجيه والتّشويش وما يبدو لنا الآن انقساما بين قوّتين أو بين نموذجين ليس انقساما نهائيّا ولكنه انقسام مرحليّ سوف يكون خاضعا في المدى القريب  كما في المدى البعيد لما سيعقبه من ممارسات في الحكم وفي الشارع.
إنّ على القوى المؤمنة بالثورة أن تخلع عنها رداء الأحزاب والانتماءات وأن تنفض عنها غبار الشكّ و أدران التردّد والخوف؛ و أن تدرك أن الذين صوتوا في الدّورة الأولي لم يكونوا خائفين وإنّما عبّروا عن موقعهم أكثر من كونهم عبروا عن موقفهم ومن ثمّ فقد تبيّن حجم الجميع؛ ولم تعد تنطلي على أحد كلّ حكايات التخويف ولا كل محاولات التّصنيم التي أريد بها للنّاس أن لا يروا أمامهم إلاّ شخضا واحدا منقذا؛ ولن يستطيع الفاعلون السّياسيوّن وغير السّياسيين تغيير الكثير في المعادلة في ما يتعلق بحظ القديم في قلب المعادلة وقد تبين حجمه النهائي ولم يعد هناك من أمل له سوى استجداء الآخرين أصواتهم وهو يدرك أنّ خزانه قد نضب و أنّ خزان الأقربين قد لا ينفع  وأن لا أمل له إلاّ في الخزان الانتخابيّ لحركة النّهضة وهذا هو مربط الفرس.
------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
  lotfidahwathi2@gmail.com