في العمق

بقلم
محمد الصالح ضاوي
دروس من الثورة والانتخابات التونسية
 من الواجب علينا أن نشكر مناسبة الانتخابات التشريعية التونسية التي قدّمت لنـــا دروســـا مفيدة للأحــزاب والسّياسيين وحتّى المثقفين. ولكن هذه الدّروس لا تفيدنا إلاّ إذا تحلّينا بالصّدق مع ذواتنا ومع محيطنا، وتجنبنا العناد والتكبّر والاستخفاف بالمجتمع. ومن المفيد أيضا، بل من الواجب الأخلاقي، أن نعتـــذر لأنفسنا وللآخرين حين تكشف لنا الأيام خطأ منهجنـــا وقراءتنا للواقع التونسي. فالقيادي النهضوي، والوزيـــر الأول السابـــق، عندما يقول في برنامج تلفـــزي: إن سبر الآراء مغالطة ولا يقدم حقائق، وأن النهضة ستربح المعركـــة الانتخابيّة وتحتل المرتبة الأولى،،،، ثم يتفاجئ بالحقيقـــة... عليه أن يقدّم اعتذاراته للمشاهدين... وإلاّ عددناه من جملة الذين يحسبون أنّهم يحسنون صنعا.
إن مغالطة الذّات والمجتمع والتّاريخ تؤدّي بصاحبها إلى الاندثار والتفكّك والنسيان... ولا تفيد الصّولات والجولات المصطنعة والمركّبة والخارجـــة عن نواميس المجتمع والتاريخ.... ويكفينا الاطـــلاع على صفحات تاريخنا الطويل لنعتبر ونستفيد من الدروس.. إن كان لنا عقل وقلب شهيد. ولا تزال معركتنا، في جانب كبيـــر منها، ذات بعد أخلاقي أدبي فلسفي، حيث أهملنا هذا البعد وسط ضوضاء التّلاعب الإعلامي والاستقطاب السياسي، وصنعنا بأيدينا أدوات التّدمير الذّاتي والمجتمعي، عبر سلوكنا البعيد عن المرجعيّة الأخلاقيّة.... إننا الآن نكتوى بالنّار الخارجة من تنّين الذّات، نتلوى ونتألم دون وعي بالسبب ولا إدراك للنتيجة.... 
ولعل الانتخابات التونسيّة تكون فرصة لمن ينشد الصّدق مع نفسه ومع مجتمعه، في استخلاص عشرات الدّروس والعبر، من أجل وقفة تاريخيّة ومراجعة عميقة للمشهد عامّة، وللأداء السّياسي والفكري خاصّة، مع الأخذ بعين الاعتبار بالشّروط التي سبق وأشرنا إليها في هذه المقدمة. ومن هذه الدروس والعبر يمكننا إجمال ما يلي:
على مستوى الثورة
(1) لا يزال الجدال العقيم بين مختلف التّيارات الفكريّة والسّياسية على توصيف الثّورة بالانقلاب وبالمشروع الاستخباراتي أو بالانتفاضة والزّلزال الاجتماعي. والحقيقة: أنّ الثّورة مجموع كل هذه التوصيفات، في أبعاد زمنيّة مختلفة. فهي بدأت احتجاجات اجتماعيّة ثم اكتسبت وعيا سياسيّا فأصبحت ثورة، ثم تفطّنت القوى الإقليميّة والدّولية فتدخّلت للتّوجيه والتّعديل ولحماية مصالحها، فأصبح المشروع استخباراتيّا، يدار من الباب الخلفي، ثم تنامت الاخفاقات للطّبقة السّياسيّة وأصبحت البلاد على فوهة زلزال اجتماعي وإفلاس اقتصادي.... وفي الأخير هدّد المشروع المضاد الثّورة في وجودها، معلنا اقتراب موتها السّريري، ولعلّ نتائج الانتخابات التشريعيّة في أكتوبر 2014 دليل على ذلك.
(2) لكل ثورة عمر وجودي وعمر ايديولوجي وعمر تاريخي... والثورات العظيمة في التّاريخ تركت بصماتها لمئات السّنين.. وأخرى لم يتجاوز زمنها الرّوحي المؤثّر سوى عقود من السّنين... أمّا الثّورة التونسيّة، فإنّه رغم ولادتها الطبيعيّة التي أذهلت العالم، ورغم أنّها لا تزال تحتفي بشمعات عيد ميلادها، ورغم أنّه لا يزال لها مدافعين من كل الألوان، فإنّ نتائج الانتخابات بيّنت أنّها مهدّدة بفناء روحانيتها مبكرا، وبانتهاء وجودها الايديولوجي، والذي لم يعمّر طويلا ولم يقدم نتائج ايجابيّة عامّة. إنّنا لم نتمتع بالمشهد الايديولوجي للثّورة، ولم نتمتع بثورية الثّورة، باعتبارها فاصلا ابستمولوجيّا بين حقبتين من التّاريخ المعاصر.... لم نُترك نتمتع بهواء الثّورة وبمائها ولم نتدفئ بنارها ولم نفترش ترابها... وكدنا نعي أنّ الثورة لم تكن سوى رقميّة افتراضيّة خياليّة وهميّة من عالم الأحلام: «عالم البرزخ».
(3) لم تولد ثورة مكتملة الشّروط، ولم توجد ثورة بالغة كاملة، بل ربّما من شروط الثّورة ومن خصائصها: بعدها الزمني... فهي زمن بلون جديد وزمن للغة جديدة وزمن برؤية جديدة.... لابدّ للثّورة من وقت كاف للنّمو والتّطور والنّضج والبلوغ... وإن كانت الثّورة في لحظتها الكونيّة تنتسب للإله، فإنّ اللحظات التي تعقبها تنتمي للحقل الانساني: إمّا بإفسادها وتشويهها وأخذها رهينة... أو بتطويرها وإنضاجها والمرور بها إلى أقصى مراحلها... فهي تولد «خليقة» ثم تصبح «صنيعة». إنّ من يراجع القرارات الأولى بعد 14 جانفي 2011 سوف يلاحظ النّفس التراجعي عن الثورة والتخبّط العشوائي المضادّ لسيرورة الثّورة. 
(4) الثورة التونسية ثورة يتيمة، ليس لها كتاب ومفكرون ومنظرون. ليس لها وليّ شرعي. ليس لها مرجعيّة فكريّة ومعرفيّة تستند إليها للتّطور والاتّجاه نحو الكمال. ففي مجتمع لا يفكّر ولا يمارس فريضة التفكّر ولا يقرأ ولا يعير اهتماما للثّقافة والمعرفة، يوشك أن تخمد الثّورة ويعلو فوقها الصوت المضاد، المنبعث من ركام التّاريخ القريب جدّا.... ثورة يتناحر السّياسيون حول أحقيتهم بها، دون أن يقدموا لها أي دعم... ثورة: يتنافس حولها الفرقاء لتطويعها وتدجينها والركوب عليها... ثورة: تختزل في مناصب وكراسيّ ومصالح مادّية.. هي ثورة زائلة... ميّتة... نتنة.... ومسمومة... لقد سيطر السياسويون على المشهد العام، وصادروه، وخنقوا كل نفس ثوري واصلاحي، وتلاعبوا بالاعلام والمؤسسات الدستوريّة وبالطّبقة الشّعبية الكادحة... وتركوا الثّورة وحيدة، بلا تمثيل....
(5) ليس هناك مؤسسة واحدة تمثّل الثّورة تمثيلا حقيقيا، وتجعل الثّورة واقعا غير منسي... بل على العكس، تمّ استهداف كل مؤسّسة يشتم منها الدّفاع عن قيم الثّورة، واعتبارها نموذجا من الارهاب الجديد الذي يخدم مصالح فئة على حساب أخرى.... وهذا الفراغ الثّوري غذّاه الإعلام المشبوه ومصالح المنظومة القديمة التي ما فتئت تبحث لها عن موقع قدم في الحقبة الجديدة. وأمام تكاسل المفكّرين والمثقّفين، وأمام انحرافهم نحو السّباق السّياسي الرّخيص، أصبحت الثّورة تبحث عن مرجعية تتبنّاها وتحقّق لها الوجود والاستمرار. على المثقفين والمفكرين استعادة دورهم التّاريخي والاهتمام بالثّورة وبجذوتها المشتعلة... والابتعاد عن الادّعاء الثوري، والحال أن ما نلقاه منهم عبارة عن براز ايديولوجي.
(6) هناك علاقة تلازمية بين الثورة والإصلاح. فالتجربة النبويّة على مرّ التاريخ تنبّهنا إلى أنّ الأنبياء والأولياء والأبطال كانوا ثوريين في العقيدة والفكر والروح، ولكنهم كانوا إصلاحيين في الممارسة والطريقة والسلوك. فالثورة: روحانيّة تسري في السلوك الإصلاحي المتواصل والمتواتر.... فلا مجال للقفز عن التاريخ وإقصاء جزء هام من المجتمع بدعوى انتماءه للنظام البائد... بل لا بد من معالجة الموضوع بطريقة اصلاحيّة تضمن الانتقال الثّوري المرن والسّلس والهادئ.... والانتخابات التونسيّة أبانت عن تعامل اقصائي مع التّجمعيين أو عن احتواء واستغلال انتخابي لهم.... ولم نر معاملة ثوريّة ذات شكل إصلاحي يحقّق المرور إلى مرحلة جديدة بأقلّ التكاليف. ومن المفيد إعادة التّساؤل عن جدوى القضيّة التي رفعت لحلّ التجمع، وعن الآثار التي ترتّبت عنها، كما يمكننا أن نتساءل: لماذا لم يتم تفعيل لجنة قضائيّة يعهد إليها جمع كل الاتّهامات ضدّ رموز التّجمع المنحل، والتّحقيق فيها، ويمنع بموجبها التّرشح إلى أي منصب إلاّ بعد صدور القرار النّهائي بالتبرئة، وبذلك نكون قد فوّتنا الفرصة على عودة النّظام القديم، مع ضمان محاسبة دقيقة قدر الامكان....
على مستوى الحوكمة
(7) من الواضح أن الحوكمة الرّشيدة لم تكن مجرّد نصوص فكريّة وأدبيات سياسيّة من زمن الحركة والمعارضة، ولن تكون كذلك... نحن بحاجة إلى الخروج من بوتقة الإرث التّاريخي للنّصوص والأحكام المتعلّقة بفقه السّياسة الشّرعية، والقيام بتعديل زمني ومعرفي يأخذ بعين الاعتبار للمتغيّرات والشّروط الجديدة التي نعيش صيرورتها.... لا بدّ من استلهام المبادئ العامّة للحوكمة الرّشيدة وروح السلطان العادل، في شكله الأصيل أو في شكله الإنساني المشترك، والاستفادة من التجارب الإنسانية المتنوعة والثرية، مع الالتصاق بالواقع ودراسته ومحاولة فهم ميكانيزماته بلغة قريبة منه، دون الإغراق في النظريات التجريبيّة، ودون الاستخفاف بأنماط الظّواهر الاجتماعيّة والادّعاء بأنّنا نعرفها ونتحكم فيها. من المقزّز ملاحظة الحرب المستعرة بين نمطين اجتماعيين: واحد يدّعي الالتصاق بالإسلام والثاني يدعي الالتصاق بالواقع الرّاهن، وهما في الحقيقة وجهين لأزمة واحدة، تمثل الاغتراب والانسلاخ عن كينونتنا، والانحطاط الأخلاقي للسّياسة عندنا.
(8) تفعيل آليات التفكير الإصلاحي شرط من شروط العمل الثّوري، فلا يمكن معالجة المشاكل الرّاهنة بأدوات كلاسيكيّة ومحافظة. لا بدّ من ايجاد أدوات إصلاحية ذات نفس ثوري، تضمن الانتقال من الأزمة إلى التنمية المستدامة، آخذة بعين الاعتبار مجمل العوامل الدّاخليّة والخارجيّة. فلا مجال لنجاح أي سياسة بعد الثّورة إلاّ بتبني رؤية إصلاحيّة متينة ومتجذّرة وواضحة وواقعيّة وإبداعيّة. من المفيد الاعتبار بتجارب الآخرين، لكنّنا لسنا ملزمين بنقلها ونسخها كما هي، بل علينا تكثيف المبادرات النّابعة من واقعنا وفكرنا وخصائص مرحلتنا. إنّ المتمعّن في البرامج الحزبيّة والسّياسيّة المطروحة وقت الانتخابات ليلاحظ، أنّها، لا فقط، كلاسيكيّة ومحافظة ومتشابهة ومفتقرة لعنصر الثّورية والنفس الإصلاحي ولكنّها مستنسخة عن برامج التّجمع المنحل، في الزّمن البائد.
 (9) لقد تبين لنا أننا لم نستثمر طاقاتنا الدّاخليّة في تجاوز أزمتنا وفي حلّ مشكلاتنا. لقد كان الهروب إلى العامل الخارجي أيسر بكثير من اكتشاف ذواتنا وطاقاتنا الكامنة في أعماقنا. إن الالتجاء إلى تنمية قدراتنا الذّاتية مؤشّر هام وجذري على تحقيق الثّورية والتّمتع بها. فلا يمكن أن نحقّق مبادئ الثّورة انطلاقا من الخارج [حلول الأزمة السّياسية يتم استيرادها من الخارج، أو يتمّ الرضى بتحكيم أجنبي، أو على أرض أجنبيّة]... إنّ دولة بحكومتها وشعبها ومنظماته ومؤسساتها تعجز عن جمع القمامة وحلّ أزمة الأوساخ المتراكمة، لحري بها أن تعلن انسلاخها من الثّورة وعدم أهليتها لتحمل مسؤوليات الرّوح الثّورية... لقد تمّ تفعيل كل الشّرور الذّاتية من أجل تحقيق المصالح الفئويّة الضّيقة والرّخيصة، ولكن لم يتم تفعيل الطاقات الايجابيّة الذّاتية في سبيل النهوض بالبلاد. 
(10) لا يمكن لحكم رشيد أن يكون، دون شرط جوهري وهو: التّشارك بين الجميع في تحقيقه. من الضّروري ايجاد آليات وأدوات حوكمة نموذجيّة تسمح بمشاركة كل الفئات، جماعات وأفراد، وتضمن انسياب الرّوح الثّورية والسّلوك الإصلاحي من الجميع نحو مراكز القرارات المختلفة. فلا معنى لحكم راشد يصادر آراء الناس وأفكارهم ومبادراتهم في كل المجالات. إنّ الشعور بالانتماء إلى الوطن وبالمشاركة في الإصلاح لهو اللّبنة الأولى لنجاح أي سياسة تنموية حقيقية. والانخراط الطوعي في الاصلاح يضمن وحدة المشروع ويعطي الأمل في المستقبل، بعيدا عن جو اليأس المخيم على مختلف فئات مجتمعنا. من هنا يمكننا الاعتبار من العدد الهائل الذي قاطع الانتخابات ولم ير فيها وسيلة تهمه لصنع مستقبله ومستقبل الأجيال القادمة.
على مستوى الديمقراطية:
(11) استفدنا من التّجربة التونسيّة أنّ مؤشّرات قياس منسوب الدّيمقراطية مرتبط بمؤشّرات قياس اللاّديمقراطية. ففي كل ديمقراطية مساحة للاّديمقراطية، تكون نسبيّا مرتبطة بالوعي الجماعي وببعض الشّروط الأخرى، أهمها الارهاب. كما أن هناك صراعا على كسب المساحات واكتساحها بين الدّيمقراطية واللاّديمقراطية. بل إنّ أهمّ مظهر للّاديمقراطية هو مسار الانتخابات والجو العام المصاحب له، وكذلك الخطاب السّياسي المسوق إعلاميّا، ومختلف الممارسات داخل الهياكل الحزبيّة. وقد اطلع الجميع على حجم التّناقض في الحالة التونسيّة بين الممارسات الدّيمقراطية واللاّديمقراطية، بل على حجم التّراجع في الممارسة الدّيمقراطية وعلى حجم الانتكاسة فيها على مستوى السّلوكيات والإجراءات الأمنيّة بسبب مكافحة الإرهاب. 
(12) كما لاحظنا غيابا تامّا وملحوظا لأيّ قرار سياسيّ يساعد على ترسيخ الدّيمقراطية. إنّ المتتبع للشّأن السياسي التّونسي يلاحظ بوضوح غياب الجهد الحكومي في ترسيخ مبادئ الدّيمقراطية وسلوكياتها في بلد ناشئ. وقد يكون الاستثناء الوحيد هو بروز بعض الجمعيات الحقوقيّة العاملة في مجال مراقبة العمليات الخاصة في المجلس التأسيسي [مراقبة النفقات ومراقبة الحضور] أو في الانتخابات [منظمة مراقبون ومنظمة عتيد] ومؤسّسات سبر الآراء الخاصّة التي تميّزت بتقنياتها الجديدة على السّاحة التونسيّة، والتي لم تجد قبولا من حركة حزب النّهضة. إنّ للدّولة جهدها الخاصّ بها في إدخال جرعات من الدّيمقراطية في الإدارات والمؤسّسات العموميّة العاملة بتواصل مباشر مع المواطن، قصد الرّقي بها إلى المرحلة الرّاهنة، والمساهمة في المحافظة على الروحانية الثّورية.
(13) من المهمّ تحديد موقف واضح من اولئك الذين يعيشون ضمن الدّيمقراطية النّاشئة في تونس، وينعمون بثمارها، ولكنّهم يجاهرون بعدائهم لها بل يعتبرونها كفرا بواحا. ولعلّ الإشكاليّة تنبع من المفارقة بين التّعبير الحرّ المكفول دستوريا وبين رفض كلّ قيم الدّيمقراطية والدّولة المدنيّة وقوانينها. وإلى حدّ هذا اليوم، ليس هناك لا موقف واضح، ولا اجراءات متّبعة حيال هؤلاء، بل على العكس، نجد حاضنة حقوقيّة لهؤلاء، تدافع عن حقّهم في محاكمات عادلة واجراءات حقوقيّة مستوفاة، والحال أنّ هؤلاء المدافع عنهم لا يعيرون المنظومة القانونيّة أي اهتمام ولا يرونها جديرة بالاحترام. 
(14) من الواضح أننا نميل إلى استنساخ نماذج خارجيّة للدّيمقراطية، ولم نقبل بإرساء نموذج تونسيّ خاصّ بنا، يراعي مقوماتنا وهويتنا. حيث لا يزال الإسلام السّياسي يراوغ يمينا وشمالا، محاولا ايهامنا بقبوله للدّيمقراطية وبتواصله معها، خدمة لأغراض دعائيّة ليس إلاّ. لم نلاحظ التّأصيل المعرفي للدّيمقراطية عندنا، بل لم نشهد ولادة ديمقراطية تونسيّة بيننا. كما أنّ العائلة العلمانيّة تبتهج باستيراد مفردات الدّيمقراطية الغربيّة غير المتجانسة، وتحاول تمريرها وتركيبها على وضع تونسي بائس فكريّا وأخلاقيا واجتماعيا. كما أنه يلاحظ غياب شبه كلّي لكلّ جهد من الأحزاب السياسيّة في مجال ترسيخ السّلوك والقيم الدّيمقراطية، بل لاحظنا العكس، حيث تقدّم الأحزاب ومختلف عناصر الطّبقة السياسيّة المثل السّيئ في الدّيمقراطية، وأنّها بحاجة إلى مراجعة مواقفها وتكييفها مع مبادئ الدّيمقراطية، سواء في مطبخها الدّاخلي، أو بخصوص معاملاتها الخارجيّة مع الفرقاء ومكونات المجتمع المدني.
(15) رغم اختلاف التعريفات والحدود في مجال الديمقراطية، ورغم تنوع وحدات القياس المرتبطة بعناصر مختلفة، فإنّه يمكن اعتبار الثّمار التنمويّة وتغيير الواقع المعيش للفرد مؤشّرا قويّا على تحقّق الديمقراطيّة. إذ لا فائدة من ديمقراطيّة لا تحسّن مستوى معيشة المواطن، ولا تجعله ينعم بالأمن والحرية والكرامة والعيش الكريم. وواضح أن هذا المقياس، لو طبقناه على الحالة التونسيّة، لاستنتجنا أنّ ديمقراطيتنا أسوأ بكثير من نظام الاستبداد الذي كان جاثما على أكتافنا طيلة عقود. فكلّ المؤشّرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتربويّة تراجعت في هذه الفترة الانتقاليّة. إنّنا نعيش حالة من السلبيّة تجعلنا نرفض الدّيمقراطية والحريّة والثّورة من أجل تحقيق غذاء مسلوب الكرامة. إنّ الذي يفكّر ببطنه وفرجه لا يمكنه استيعاب مفاهيم الحرّية والكرامة والثّورة والدّيمقراطية، بل لعلّه يكون أوّل عدوّ لها، بالرّغم من أنّها تتوجّه لرفاهيته وتغيير حياته نحو الأفضل. 
على مستوى الانتخابات
(16) بينت الانتخابات التشريعية ارتفاع منسوب التسلّط في المفهوم السّياسي للتّونسي، على حساب انخفاض وانعدام ثقافة الاصلاح والمبادرة الايجابيّة. ففي القاموس السّياسي التّونسي، لاحظنا اتجاهات نحو التّسلط باعتباره جوهر الممارسة السّياسية، عبّرت من خلاله مختلف القائمات المترشّحة للانتخابات... فيكفي استعادة حمّى الترشحات حتى ندرك ذلك الشّحن السّياسي المتلبّس بالمترشّحين، والذين وضعوا صوب أعينهم الوصول إلى كرسي البرلمان، مهما كلّفهم ذلك، بلا أقدميّة في العمل السّياسي ولا تجربة ولا سيرة ذاتيّة تؤهّلهم للفوز... بل نكاد نجزم أن إنجازهم الوحيد هو إرادة التسلّط والهيمنة على الآخر، تترجم في سلوكيات انتخابيّة بلا روح ولا جوهر.
(17) المسألة الأخلاقية كانت مطروحة بوضوح في هذه الانتخابات، حيث لاحظنا كل أنواع التجاوزات الأخلاقيّة على حساب العمليّة نفسها... فالجشع والتّكالب على السّلطة والإرادة الذّاتية للانتصار وتقزيم الآخر واقصاؤه وتشويهه ونفيه، كلّها سلوكيات حضرت في المشهد الانتخابي وسيطرت عليه بقوة، في إطار تغييب المجتمع والتّلاعب به واستغلاله والرّكوب على همومه وقضاياه. ولعلّ الانتخابات كشفت الخواء الأخلاقي للسّياسيين التونسييّن وعمق الأزمة الحضاريّة التي نعيشها.
(18) بيّنت الانتخابات أيضا، أنّ البرامج المقدّمة من قبل القائمات الحزبيّة والمستقلّة، لا تعدو أن تكون وعودا زائفة، أو وعودا مكرّرة، أو مستنسخة، أو كلاسيكيّة.... وغابت بالتّالي البرامج المستوحاة من العمق التّونسي ومن الذّكاء التونسي ومن التجربة التونسيّة.... فكانت برامج لا روح فيها.... فاقدة للمصداقيّة، معدّة سلفا للضّحك على الذّقون، وللتّسويق الإعلامي... هذا فضلا عن عدم امكانيّة تنفيذها خاصّة بالنسبة للقائمات المستقلة التي لن تتمتّع بالأغلبيّة لتكوين حكومة وتنفيذ ما وعدت به، ولن تكون ذات وزن برلمانيّ للضغط على الحكومة وتمرير أفكارها.... فكانت لعبة مشوّهة وفاقدة لمعيار الواقعيّة والانضباط الأخلاقي..
(19) لاحظنا أن الهياكل المسؤولة على الانتخابات عملت كل ما في وسعها لتقديم عرض فرجويّ عالي الجودة وبمقاييس عالميّة، لكن دون الاهتمام بجوهر العمليّة الانتخابية التي هي: ترسيخ ثقافة الانتخاب والاقتراع والمسؤوليّة المدنيّة والواجب المدني. لقد نجحنا في تسويق صورة إعلاميّة وإعلانيّة لمشهد فرجوي عالمي بحضور مراقبين من كل أنحاء العالم، لكنّنا أنجزناه بأيد مرتعشة وبخواء ثقافي وفكري وبمساهمة محتشمة من المواطنين، وبمشاركة ضعيفة من الشّباب. فلا تحجبن النتائج الايجابيّة عن أعيننا، سلبياتنا الدّاخلية، التي تتطلّب منّا العمل ما بين موعدين للانتخابات، قصد تحقيق مشاركة أوسع ووعي أعمق وسلوك أرشد. وهذا يذكّرنا بنجاحات العهد السابق في إدارة وتنظيم المؤتمرات العالميّة لتحقيق تسويق إعلامي للنّظام، مع إهمال لكل الجوهر والمضمون.
(20) لا يمكن للانتخابات ان تنجح اذا لم تكن سلوكا عاما ومرسّخا في المجتمع، تقبله الثقافة والعرف الاجتماعيين. فلا بدّ من نشر ثقافة الانتخاب في مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، باعتبارها آلية للتنظيم وفضّ النزاعات والخلافات والتّقدم بالمجتمع. إنّ ربط الانتخابات بالتنافس السياسي فقط، وبمثل هذا السلوك السياسي المتخلف، وبهذه الروح التسلطية الاستبدادية، لهو قتل لآلية الانتخاب وإفراغ لها من جوهرها وروحها. لذلك علينا جعل الانتخابات وسيلة اجتماعية منتشرة في كل القطاعات حتى على مستوى العائلة والمدرسة قصد التصالح مع العصر، والتناغم مع الحداثة.
(21) كشفت الانتخابات أيضا على نوع الماكينة الانتخابيّة التي اشتغلت بقوّة في المشهد التّونسي، حيث ميّزنا بوضوح بين ماكينة تنتمي لبقايا التّجمع، لا تزال تعمل بقوّة خاصّة في الأرياف والأحياء الفقيرة، وهي تتمتع بقوة تأثير تاريخيّة، وجهاز من العاملين المتطوّعين والمحترفين، في السّياسة الميكيافيليّة، ذات القاعدة الشّهيرة: الغاية تبرّر الوسيلة، وبين ماكينة انتخابيّة إيديولوجيّة انبنت على الطّاعة والبيعة للشّيخ، تعمل بثبات بين المناضلين، وبأقلّ درجة بين المتعاطفين، وهي في تركيبتها وتقنياتها تشبه تلك الموجودة بين الجماعات السلفيّة والجهاديّة والجماعات الاسلاميّة المنغلقة مثل حزب التحرير. وقد ساهم الإعلام التّونسي في معظمه في تأييد الماكينة التجمعيّة، لأنّه نتاجها الأصلي وثمرة من ثمراتها، يدين لها بالولاء، رغم ادعائه خلاف ذلك. وبالتالي، افتقد المشهد التونسي لبيئة سليمة تتم فيها الانتخابات وسط تنافسيّة شريفة ووطنية، في جو أخلاقي وحضاري.
على مستوى الأحزاب السياسية
(22) لاحظنا، من خلال متابعتنا للسّاحة السّياسية التونسيّة أنّ معظم الأحزاب التونسيّة النّاشئة، انبثقت من انفعالات عاطفيّة فرديّة وهوى نفسي شخصي، وإرادات ذاتيّة منعزلة، انخرطت في تكوين حزب سياسي بدعوى الإصلاح وتحقيق أهداف الثّورة. وقد لوحظ أن هذه الأحزاب كانت ولاتزال، عروض من نوع الشخص الواحد «وان مان شو»، حيث يبرز فيها البطل الموهوب القائد الطّامح للسّلطة، بوصفه كل السّلطات مجتمعة.... كما لاحظنا أن الكثير من الخلافات داخل الأحزاب تؤدّي بالانسلاخ وتكوين حزب جديد... كلّ هذه الأنواع من الأحزاب تفتقد إلى العمق الشعبي وإلى التفكير الاستراتيجي، وإلى الأفكار والمبادرات الإصلاحية... مجرّد فقاقيع سياسيّة وظواهر صوتيّة وصور رقميّة....
 (23) كل من يتابع ما يجري داخل الأحزاب السّياسية التونسيّة، سوف يكتشف أنّ الإشكال في السّلوك والإدارة وليس في المبادئ والأفكار فقط... وهو إشكال منشؤه حبّ البروز والتّسلط والوصول إلى المنصب. فلذلك رأينا انتقال المناضلين من حزب إلى أحزاب كثيرة، ورأينا استقطاب حزب لمناضلين من أحزاب مختلفة، كل ذلك من أجل تحسين اللّوحة الفنّية السّياسية القابلة للتّسويق السّياسي.... فالمسألة السّياسية في تونس لا تعدو إلاّ أن تكون ألعابا سحريّة وخفّة حركة تقدم لجمهور من الأطفال، الذين يستحسنون العرض ويستمتعون به رغم علمهم أنّه ليس بسحر.
(24)  يستفاد من تجربة حزب نداء تونس، وهو الحزب الفتي الذي استطاع أن يتزعّم معارضة قويّة ضدّ النّهضة، أنّه حزب تأسس كأمل لكل المعارضين اليائسين من الأحزاب التقليديّة المعارضة، والطّامعين في استعادة جهاز التّجمع التّسويقي السّياسي، المعبر عنه: بماكينة التجمع، لاستغلاله قصد الوصول به إلى السلطة، وقد نجحوا في كسب جولة من الجولات، لكّنهم أمام تحدّيات كبيرة من حيث الوحدة والممارسة الدّيمقراطية وغير ذلك....ويعتبر هذا الدّرس مفيدا للنّهضة التي، لم تتعامل بجديّة مع بقايا التجمع، ولم تستفد من جمهوره، ولم تحسن التواصل بين القديم والجديد....
(25) لم تستقر الخارطة السياسية التونسية بعد، كما أن حركيتها غير قابلة للقياس حاليا، لتداخل عدة اعتبارات سياسية وشخصية ومستقبلية.... ويستفاد من التجربة الحالية أن النهضة، حاليا، من أقوى الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، في تونس وفي العالم العربي، رغم ما يتهددها من مخاطر كبيرة، وإذا لم تستفد من الدروس، فإنها سوف تتقدم نحو الانتحار السياسي، وستتسبب في مشاكل داخلية في المجتمع. إن أكبر خطر على النهضة، هو: استمرارها على النهج الدعوي الحركي الايديولوجي، رغم الخطاب الحداثي لقادتها. إن قواعد النهضة يميلون إلى المذهب الوهابي السلفي المتشدد، وهو ما يجعلهم براميل بارود تحت أرجل القيادة.... ولعل صمام الأمان الحالي للنهضة هو مناضليها التاريخيين الذين لايزالون يلعبون أدوارا قيادية في كبح جماح القواعد غير المنضبطة أخلاقيا.  وإن أكبر تحد للنهضة هو مدى انفتاحها على الآخر، وإقامة دوائر تعاطف حولها من الفنانين والمثقفين والمفكرين والجامعيين، كهمزة وصل بينها وبين المجتمع، وهذا يتطلب تهذيب القواعد وتزكيتها النفسية والأخلاقية والسياسية حتى تقبل بالآخر.. ووفق هذا التحول المتخيل، فإن النهضة قد تخسر قواعد سلفية لكنها تربح أضعاف أعدادهم من المواطنين العاديين غير المسيسين...  
(26) هناك استسهال للعمل السياسي من قبل المناضلين السياسيين، حيث يعتبرون أن مجرد تكوين حزب سياسي يحقق المطلوب ويعطي تأشيرة للوصول إلى المنصب. لقد فات هؤلاء، أن الخطاب الفكري والثقافي يختلف عن الخطاب السياسي.. وأن الخطاب السياسي بحاجة إلى أن يتحول إلى شعارات شعبية تلتصق بوجدان المجتمع... وأن التأهل للمنصب يستدعي ماكينة انتخابية محترفة وتشتغل على مدى السنوات.... كما أن البرامج يجب أن تتأسس وفق رؤية إصلاحية، نابعة من التجربة التونسية وبكفاءات تونسية، وتستجيب للواقع التونسي. ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نتساءل عن وضعية مائتي حزب سياسي في فترة أربعة سنوات؟؟.
(27)  بينت التجربة التونسية، أن الأحزاب السياسية وحدها لا يمكنها أن تعمل في الساحة إلا بتواصل مع الإعلام والمنظمات الوطنية الكبرى. وقد تفاجأت النهضة بحجم الاتحاد وبحجم مؤسسات الإعلام القائمة... فكان سوء تقديرها لهذه المؤسسات ولمدى فاعليتها، أثره في الخروج من الحكومة، ومنها، في التراجع عن المرتبة الأولى انتخابيا. ولا نعتقد أن التحول سيصيب هذه القاعدة في المدى المتوسط.... لأن هذه المؤسسات تنتمي في جزء كبير منها، إلى منظومة تاريخية سابقة عن الثورة، تتطلب سنوات وفضاء أرحب، للتحول الثوري، ولإصلاح ميكانيزماتها الداخلية...
(28) في الموعد الانتخابي البلدي القادم، سوف تشهد الساحة السياسية خلطا آخر للأوراق، وسوف نشهد بروز أحزاب وخروج أحزاب أخرى من الساحة... كل هذا في جو انتخابي غير سليم,,, حيث غياب لثقافة الديمقراطية والانتخاب والمواطنة.. لكن الأكيد، أن الاختيار في الانتخابات البلدية سوف يكون أكثر مسؤولية وأكثر تدقيق، لمعرفة الناخب بالمترشح، وهو ما يغيب عادة عن الانتخابات البلدية.
هذه بعض الدروس المستفادة من الانتخابات التونسية، نرجو أن يعتبر بها السياسيون وقادة الأحزاب والمفكرون والمثقفون، قصد تجاوز المرحلة.....
-------
-  كاتب وصحفي 
dhaoui66@gmail.com