الأولى

بقلم
فيصل العش
لتونس ربّ يحميها
 «على الأحزاب الوطنيّة المنحازة للثّورة أن تعمل على توفير المناخ الملائم لتشجيع المواطنين على الانخراط في العملية السّياسيّة وتبعث رسائل اطمئنان للنّاس بخلق توافق وائتلاف فيما بينها قادر على قطع طريق العودة «إنتخابيا» أمام سدنة المعبد النوفمبري بجميع أطيافهم». كان هذا مقطعا من افتتاحية العدد 55 بتاريخ 2 ماي الفارط، صيحة فزع تنذر بما هو آت وقد أتى. فقد أسفرت نتائج الانتخابات التشريعيّة عن فشل الأحزاب «الوطنيّة»/«المنحازة للثّورة» فشلا ذريعا وسقوط مدوٍّ للعديد من الشخصيات المناضلة تاريخّيا مقابل عودة شخصيّات تجمّعيّة إلى مكانها بالمجلس عبر صندوق الاقتراع وبإرادة شعبيّة واضحة. إنّه زلزال رهيب بأتمّ معنى الكلمة، أربك السّاحة السّياسية بكاملها وأدخل البلاد في مسار جديد لم يكن يخطر على بال بشر.. فعوض أن تتوحّد القوى الوطنيّة وتتآلف وتدخل الانتخابات بصوت واحد ومشروع واحد حدث العكس، فكان العقاب الشّعبي قاسٍ، وتوحّد الآخرون من دون ضجيج ولا شوشرة فكان الفوز حليفهم. وما القول بالتزوير والتذرع باستعمال المال السياسي إلا عناد سياسوي مفضوح أو وسيلة لامتصاص الصّدمة. 
هل يعني هذا أنّ البلاد تسير نحو عودة النّظام القديم ولو بشكل جديد؟ أمّ أنّه مازال هناك فسحة من الأمل وبعض من الوقت للقوى المنحازة للثّورة تستطيع فيه أن تعيد القطار إلى سكّته الصحيحة فيسير بالتونسيين نحو بناء مجتمع تتحقق فيه الكرامة والحرّية ومبادئ المواطنة وحقوق الإنسان وتخفت فيه ألاعيب المافيا والفاسدين؟
لا يُحبّذ أن يكون التفاؤل كبيرا، لكنّ فسحة الأمل متوفّرة ولم يبق أمام القوى التي تدّعي انحيازها للثورة وتصنف نفسها في خندق مقاومة عودة الأصنام القديمة سوى محطّة الانتخابات الرئاسيّة المبرمجة ليوم 23 من هذا الشهر. فهل باستطاعتها في هذا الحيـــز الزمني القصيـــر أن تقلب الطاولـــة وتعطّل الماكينـــة التي أنجزت ما لم يكن متوقعــــا يوم 26 اكتوبر؟ 
لست غارقا في التشاؤم لكنّ المؤشّرات الأوّلية تدلّ على صعوبة المهام التي تجنّدت ثلّة من المثقفين والأحزاب الصغيرة لتحقيقها عبر الالتفاف حول الدكتور المنصف المرزوقي ودعمه ودعوة الناس لانتخابه رئيسا للبلاد. المؤشّر الأول يتمثل في عدم حصول اتفاق بين مختلف مكونات «الحركة الديمقراطية» حول اختيار مرشّح وحيد لدعمه منذ الدّور الأول عوض دخول غمار الانتخابات متفرّقين بعد فشل مقترح رئيس المجلس التأسيسي ومرّشح حزب التكتل من أجل العمل والحريات الدكتور مصطفى بن جعفر. والثّاني اختيار حزب حركة النّهضة الوقوف على الرّبوة حيال دعم المترشّحين للرئاسية وأخذ قرار ترك الحرّية لمنظوريها لدعم الشّخصيّة التي يرونها مناسبة لهذا المنصب، وبغض النظر عن الأسباب التي جعلت أكبر الحركات السّياسية شعبيّة في البلاد تأخذ مثل هذا القرار بعد أن «آثرت» منذ مدّة عدم خوض الاستحقاق الرئاسي بمرشح من كوادرها، فإنّ «النّهضة» قد ضيّعت على المرزوقي فرصة الاستفادة من الماكينة الانتخابيّة التي تمتلكها والتي جعلتها تحافظ على موقعها كقوة كبيرة في مجلس الشّعب بالرغم من الهرسلة والحرب الاعلاميّة التي شنّها عليها منافسوها لتحطيمها وإفشالها. 
ففسح المجال لمنخرطي النّهضة وجمهورها الانتخابي لاختيار من يرونه صالحا للرّئاسة، سيجعل هؤلاء يتحرّكون من غير تأطير وتوجيه وهم الذين تعوّدوا الحركة بشكل مؤطّر ومنظّم في مختلف المناسبات ولا أحسب أنّ الوقت كاف للقائمين على تنظيم حملة الدّكتور المرزوقي لكي يوفّروا التأطير المناسب لهؤلاء، ممّا قد يؤدّي إلى عدم الاستفادة بالشّكل الأمثل من طاقات هذا الجمهور وجعله يصبّ في مصلحة حملة المرزوقي.
المؤشّر الثالث يتمثّل في دخول العائلة الدستورية وعلى رأسها نداء تونس بأسبقية معنويّة كبيرة نتيجة فوزها في الانتخابات التشريعيّة ونجاحها في التكتّل وتوحيد الاختيار الانتخابي على عكس العائلة الديمقراطيّة. فإعادة سيناريو التشريعيّة ليس صعبا مادامت نفس القوى تتحرك بنفس الآليات وعلى نفس الملعب خاصّة وأنها مدعومة بشكل لافت للنظر بشبكة كبيرة من وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة والمكتوبة والالكترونية. فلا غرابة إن فؤجئ الجميع يوم الاقتراع بالتّصويت لشخصية دستوريّة واحدة ولا غرابة أيضا إن كانت غير الباجي قائد السبسي.    
المؤشر الرّابع يتمثّل في الدّور الذي قد تلعبه القوى الإقليميّة بصفة غير مباشرة في اختيار من يرأس البلاد.. فتدخّل القوى الإقليميّة والعالمية في الحياة السّياسية التونسيّة ليس بالهيّن وإن كان بشكل ناعم على عكس ما نراه في دول الربيع العربي الأخرى. ولا يخفى على أحد موقف جيراننا وأشقائنا العرب وبعض الدول الأوروبيّة من الدكتور المنصف المرزوقي.
المتحكّمون في العمليّة الانتخابيّة كثـــر ومختلفــــون والسيناريوهات متعدّدة لا نتمنّى أغلبها ونخشى وقوعها، لكنّ لا خيار للغيورين على هذا الوطن سوى مواصلة العمل والتعبئة وترك الصّراعات الثّانوية جانبا، فالحدث جلل ولا مجال للتفكير سوى في  كيفيّة رصّ الصّفوف والالتحام بجمهور النّاخبين لاقناعهم بأهميّة التصويت لفائدة من يحبّ هذا الوطن ويقدّر تضحيات شهدائه ويؤمن بالحرّية وبحقوق الإنسان ولا يضع لهما حدّا، لرئيس متشبّع بقيم المواطنة والحرّية، مناصر للحقوق ومنحاز لقيم الثّورة ولا تربطه علاقات نسب أو انتماء إلى المنظومة القديمة التي شوّهت البلاد وغرست فيها أمراضا كثيرة أهمّها الفساد وقمع الحريات والاستبداد.
إنّها لحظة مفصليّة في تاريخ تونس، فمن أراد أن يكون له دور فيها فليشمّر على ساعديه ويخوض غمارها، فإن نجح فذلك المبتغى وعليه مواصلة الطريق، فطريق الديمقراطية وعر وطويل وإن فشل فأجره على الله.. 
أمّا تونس فلها ربّ يحميها ....
--------
  مدير المجلّة .
 faycalelleuch@gmail.com