قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
ننتصر .... أو ...
 استطاعت الثورة التونسية أن تتخطي صعابا ومنعطفات عديدة حيث تخلّصت من آلة القمع الرّهيبة التي جثمت على صدور التّونسيين طويلا وكسّرت حاجز الخوف لتجعل من أكثريّة المجتمع في مواجهة مع النّظام ممّا أجبر رأسه على الهروب ودولته على التراجع. ولئن فاجأت الثّورة نخبة النّظام وبطانته فإنّ هذه النخبة سرعان ما استعادت زمام المبادرة مستغلّة انقسام المعارضة وسذاجة الثّوريين وافتقارهم للقيادة، فلقد استنفرت هذه القوى مجتمعة كل قوّتها منذ الأيام الأولى لقلب المعادلة لصالحها كليّة، فلما لم  تفلح  اكتفت بالانتظار والمناورة.
كانت بداية المناورة أن رفعت شعار استمراريّة الدّولة مرتكزا أساسيّا وجعلته حصانها الرّابح في سباقها نحو العودة إلى السّلطة وفي سعيها لتخويف الناس والثوار؛ ولتعمل من خلاله على التدخّل المباشر في مجريات الأحداث. وهكذا استطاع النّظام القديم البقاء في المعادلة الجديدة بكل الفاعلية المطلوبة؛ وباللّباس الثّوري أيضا؛ فكان منه الوزير الأول والرئيس؛ وكان له قصب السّبق في تشكيل كلّ اللّجان التي قيل حينها أنّها نصبت لتحقيق أهداف الثّورة ؛ وهي لجان رُوعي في تشكيلها تحالف قديم جديد بين الفاعلين في النّظام وبعض النخبة التي كانت تشترك معه في نفس الهمّ ونفس الإدّعاء وهما مقاومة الإسلام السّياسي واحتكار الحداثة والسلطة.
ليس الهدف من سرد الأحداث سوى تذكير الغافلين والتمهيد  للإجابة على كثير من الأسئلة الملحّة التي تطرحها نتائج الانتخابات الأخيرة على المجتمع عامة فاعلين ومستقيلين وعلى نخب الثّورة بطيفها الواسع؛ من أخطأ منهم فى حقّها ومن لم يخطئ ولعلّ أوكدها السّؤال عن مدى مساهمة النّظام  القديم وحلفائه فى صناعة هذه النّتائج منذ الثورة وإلى الآن؟ بمعني آخر هل أنّ هذه النّتائج هي فعلا تصويت عقابي لثلاثيّة الحكم كما يشاع، أم هي في  وجه آخر من وجوها تتويج لمسار عملي انخرط فيه أعداء التّغييرمن جهة والكارهون للمجلس التّأسيسي ومن أتي بهم من جهة أخرى؟ هل ساهمت المناورات المتكرّرة والتضييق على أهل الحكم الجديد واستهدافهم وشيطنتهم في تهيئة المناخ لمثل هذه النتائج؟
لا يستطيع أي قارئ موضوعي للأحداث أن يغفل معطيات الواقع وإلا كانت قراءته قاصرة ولا مجال حينئذ للوصول إلي تقييم مفيد يمكن البناء عليه ولعلّ الناظر الآن في تقييمات كل من حزب التكتل والحزب الجمهوري؛ يدرك تهافت هذه التقييمات واستعلائها على الواقع الذي يدرك فيه القاصي والداني أن ما جرى إنّما هو نتيجة طبيعية لما خضع له النّاخب من عمليّة توجيه ممنهجة عملت لها آلة النظام بتأن وبخطوات محسوبة لكي لا نصل إلاّ إلي هذه النتائج.
كان مطلب النخبة في زمن الدكتاتورية هو الحرية والكرامة والمشاركة في الحكم وكان النّضال السّلمي هو سبيلها في ذلك؛ وكان همّ الدّولة المتسلّطة هو إحكام القبضة على المجتمع والنّاس بهدف استبعاد أيّ أمل لديهم في التّغيير يمكن أن يحقّق جملة مطالبهم. ومن ثمّ فقد اتّسمت العلاقة بين الدولة والمجتمع بالأحاديّة، فكانت علاقة عمودية قوامها العنف والتكييف ؛ عنف للسّيطرة وتكييف للاحتواء.وقد استعانت الدّولة في سبيل ذلك بآلة قمعيّة وأخري إعلاميّة وبذلك تمكّنت من البقاء الطويل رغم ما حدث من زلازل طوال مسيرة ما سمّي بالدّولة الوطنيّة.
انقلبت الصورة بعد الثورة مع وصول نخبة جديدة للحكم ومع مجيئ المجلس التأسيسي؛ اختارت هذه النّخبة أن تكون العلاقة بين الدولة والمجتمع نابعة من رحم الثورة؛ خاضعة لمقتضيات الواقع الجديد الزّاحف نحو الحرّية والكرامة؛ الرّافض لكلّ أشكال القمع والحيف والتمييز وهكذا صارت الدّولة راغبة في تحرير الإنسان وتمكينه من التّغبير الحرّ عن إرادته؛ جاعلة من قيم الحرّية والكرامة والتّعايش والتسامح والتوافق قيما جديدة ولا مندوحة في ما كان لهذه الرؤية الجديدة من أثر في حياة النّاس خلال السّنوات الماضية حيث عمّ الإحساس بالحرية وبالقيمة الذّاتية للبشر أفرادا وجماعات .ولكن نخبة التسلّط والإقصاء استطاعت هي أيضا استغلال هذه الحرّية المفرطة للتطاول على رموز الدولة والتشكيك في كل عمل وتقبيحه  حتى وصل الأمر حدّ التطاول على الثورة ذاتها وعلى كل مخرجاتها وما كان ذلك إلاّ بغاية التمهيد للمشهد الحالي.
لا يرفع السيد الرئيس الدكتور المنصف المرزوقي شعاره الإنتخابي : «ننتصر أو ننتصر» من فراغ ؛ فهو يدرك أنّنا إزاء معركة لم تنتهي؛ يخوضها البعض بشرف وقلبه يخفق للوطن وللحرية؛ ويخوضها البعض الآخر وقلبه لا يخفق إلاّ لما خفق له ستّين عاما أو تزيد؛ قلب مفعم بالحب وآخر لم يكد يمسح عنه أدران ما كان فيه ...ننتصر أو لا ننتصر في هذه المعركة وفي ما سيليها من معارك؛ ذلك وحده  ما فيه الخير للجميع ؛ وذلك ما تحتاج منا همّة عالية. ولله الأمر من قبل ومن بعد.. 
------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
  lotfidahwathi2@gmail.com