تمتمات

بقلم
يسري بوعوينة
عودة الشهيد
الشّهيد إذا مضى في قافلة المجد والخلود نحو الله لا يعود أبدا..العودة إلى الوراء لا تليق بمن ترك كلّ شيء وراءه ونهض ليموت واقفا وليواجه الرّدى غير آبه بهذه الحياة ونعيمها...الشهداء أكبر من الموت من أجل ذلك وهبهم الله الحياة الأبديّة، فهم دائما أحياء وعنده يرزقون...
لا يذوق الموت وطعمه المرّ إلاّ من يخافـــه ومن يرتعش لقدومـــه...أمّا الشّهيد فهو يسعى إليه سعيـــا...الموت يبرز للخائفيــــن ومن هم في الأبراج والقصـــور المشيّدة، أما الشّهداء فيقتحمـــون باب الموت وقلعته كأنّهم يحاربونــــه...لا يليق إذن بشهيد أن يعود إلى هذه الحياة، فكيف يترك الأعلى من أجل الأدنـــى. ولكن لنتخيل حدوث المعجــــزة وعودة أحد شهدائنا وقد كانت أمنيته الوحيــــدة أن يرى ماذا فعـــل الذين من بعده؟ ليرى هل ذهبت دمــــاءه هدرا أم أنّها روت تربة المجد وألهبت نفوس أبناء الوطن؟ لقد شهدت دمائه من قبل وهذا الآن دور لسانه:
إسمي لا يهمّ كثيرا...بالنّسبة للَجْنة تقصّي الحقائق، لم أكن سوى مجرّد رقم وبالنسبة لوسائل الإعلام لم أكن سوى مجرّد ضحيّة...السّياسة لم تكن تعنيني بدرجة كبيرة وإن كنت متابعا للشّأن العام ومتألما لحال بلادي بين يدي جلاّديها....
كانت حياتي كلها تتمحور حول صغيرتي «إيريس» التي من أجلها ولأجلها كنت أحيا.....كيف أنسى يوم الثالث عشر من جانفي 2011؟ جميعنا يتذكّر يوم ولادته وتتكفّل عائلته بتذكّر يوم وفاته، أمّا أنا فقد نسيت تاريخ ولادتي ولم أعد أتذكّر سوى يوم الثالث عشر من جانفي...هو عندي التاريخ واللاتاريخ...في ذلك اليوم كنت مارّا بأحد أنهج العاصمة القريبة من وزارة الداخلية وفي نفس الوقت كانت تمرّ مسيرة إحتجاجيّة إعترضها البوليس بالعصي والهراوات والغازات المسيلة للدّموع والرّصاص المطاطي..
لقد منحني القدر فرصـــا عديدة للنّجـــاة ولتنتهي قصّة حياتـــي بشكل مختلف إلاّ أنّني رفضتها جميعا وهربت من قـــدري إلى قـــدري..كان يمكنني أن أغيّر النّهج الذي أسير فيه وأبتعد عن ساحة المواجهة...شيء ما في داخلي كان يدفعني للبقاء...بدأت المواجهات وأصيبت أحد الفتيات الموجـــودات في الصّفوف الأماميّة بإختناق نتيجة الغاز الذي كانت قوات الأمن تطلقه بسخاء وبلا حساب..المواجهات مع الأمن كـــرّ وفرّ وأمام تقدّم قوات الأمن، كان يمكنني أن أهرب مع الهاربين وهي الفرصة الثّانية التي يمنحني إياها القدر وربما كانت ستكتب لي حينها قصة أخرى وربما كنت سأكون في مساء ذلك اليوم في منزلي أشاهد مع إبنتي أخبار تلك المظاهرة في التلفيزيون.. 
شيء ما مرّة أخرى دفعني للأمام...لمعت في خاطري فكرة أنّه لو كانت تلك الفتاة التي تطلب النجدة «إيريس» هل كنت سأهرب وأتركها وحيدة تواجه الإختناق وعصا وحوش البوليس التي لا ترحم كبيرنا ولا صغيرنا وتعطي المواطن فوق حقّه؟ لم أفكّر كثيرا وإنطلقت مسرعا عكس التّيار في مشهد غريب... لمحت في وجوه النّاس الذين كانوا يركضون في كل إتجاه علامات الإستفهام والإستغراب...إلى أين يذهب هذا المجنون؟ أتراه من عناصر الأمن السّياسي مندسّا وسط المظاهرة وإلا كيف يسير بقدميه إلى قوّات الشّرطة؟ هل سيواجه البوليس بمفرده؟ أهذه كلها شجاعة؟ بعضهم توقّف وإستدار ليراني مخترقا الصّفوف سابحا عكس التّيار..
لم أكن ألمح الناس...كنت فقط أرى تلك الفتاة....وصلت سريعا وسألتها إن كانت بخير فلم تستطع الإجابـــة حملتها بسرعـــة قرب شجرة كانت بجانب الطريق لتلتقط أنفاسها..غسلت وجهها بالماء وهدّأت من روعها وعيني لم تغب بعد عن جحافل الشرطة التي تتقدّم يسبقها السّباب والشّتم والعبارات النابيّة...مرّة أخرى كان يمكن لهذه القصّة أن تكون نهايتها مغايـــرة لو أنّني هربت بمجرد أن إطمأننت على الفتاة...لكن شيئا ما في عينيها جعلني أبقى..ربّما هي نظرات إستعطاف عجز أن ينطقه لسانها لتترجّاني البقاء معها وأن لا أتركها وحيدة وربّما هو قلب الأب الذي لا يترك فلذة كبده مهما كانت المخاطر..
سألتها عن إسمها فقالت بصعوبة... «أمل»...قلت في نفسي «أمل» أو «إيريس» ما الفرق بينهما؟ كان يمكن لإبنتي أن تتواجد في نفس الظروف وجها لوجه مع هذا البوليس المتوحّش الذي حقدت عليه لأول مرّة في حياتي...كان يمكن أيضا أن يهب شخص لنجدتها مثلما فعلت أنا مع «أمل»..قلت لها لا تخافي سأحملك بعيدا عن هؤلاء الوحوش وعن هاته الغابة من الفوضى..أخذتها بين أحضاني وركضت وقد نال ظهري بعض ضربات من عصا البوليس الذي أدركتني طلائعه..هربت إلى شارع فرعي ولا أدري إلى أيـــن كنت أهرب تحديدا، المهمّ أن أبتعد مع تلك الطفلة من مكان المواجهـــات....كانت الشرطة تلاحقنا ...أشار إلينا أحد الباعة بالدخول إلى محلّــه..وضعت الفتاة جانبا وقد إلتف حولها شخص قال إنّه طبيب وإمرأة حملت لها بعض العطور...
لم أكن أعلم أن الخروج من ذلك المحلّ يساوي الخروج من الحياة بأسرها...ما إن وضعت قدماي خارجا حتى أحسست بشيء يخترق صدري...رأيت الدّم الأحمر القاني ينفجر منّي وسقطت على الأرض...رصاصة لا أدري من أين إنطلقت إستقرت في جسدي...آخر شيء أذكره هو بكاء تلك الفتاة الجنوني وصراخ النّـــاس و قد تحلّقوا حولي....بعد ذلك كان السّلام و الهدوء...لم أكن أنتظر الموت في ذلك اليوم الذي إشتقت فيه أكثر من أي وقت مضى إلى إبنتي الصغيرة «إيريس»...كنت أعتقد وقد أنهيت قضاء بعض الشؤون الخاصّة أنني سأعود سريعا إلى البيت وأمكث أمام التلفيزيون أراقب بلدا ينتفض وينفض عنه غبار الذلّ و الخنوع..
لو كنت أعلم أن يوم الثالث عشـــر من جانفي هو آخر يوم لــــي في هذه الحياة لكنت إحتضنت إبنتـــي إلى آخر دقيقة منه...أنا لم أقم بعمل بطولي، أيّ أب في العالم كان سيتصرف مثلي ..... لم أكن أستحقّ المـــوت، فأنا كنت أنقذ طفلة من المــــوت ولم أكن أحمل سلاحا لأقلب النّظـــام...لقد كتبت رصاصة الغدر آخر فصل في حياتي ولكني وأنا أسلّم روحـــي إلى خالقها أيقنت أن  القصّة لم تنته بعد وأنّ الشّعب هو من سيكتب آخر فصولهـــا وما أنا إلاّ صفحة من صفحاتها...تمنيت وقتها أن يمدّ الله في عمري لأرى نهاية نظام بن علي وقد إنهار مع إنهيار الخوف وسقط من قلوب النــــاس مع سقوط القتلى والجرحى...أن تقتل الناس في الشوارع فهذا يعنــــي أنّك تحفر قبرك بيدك..أنّ ساعة رحيلك قد قربت وثمنها هو أرواحنا وقربانها هي دمائنا...
مضى على كلّ هذا قرابة الأربع سنوات....نحن الآن في شهر نوفمبر 2014 .....وقفت في شارع الحبيب بورقيبـــة أرى النّـــاس ولا يراني أحد...أسرعت إلى المكان الذي أصبت فيه وأسلمت روحي إلى بارئهـــا...لم يتغيّر شيء..عاد بي شريط الذكريــــات إلى اليوم الثالث عشر من جانفي...ألقيت نظرة على المحلّ فلم أجد ذلك البائع الذي أنجدنا وأدخل الفتاة إلى محله لتلقي الإسعافات الأولية...نظرت إلى الأعلى فوجدت صورته تعلوها شارة سوداء فعرفت أنه إلتحق بنا إلى الرفيق الأعلى...
(يتبع)
-------
طالب مرحلة ثالثة في العلوم السياسية
yosri.bouaouina@gmail.com