مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
أهليّة قطاع التمويل وفرص تطويره
 معلوم في سنن الشعوب أن أي تغيير في واقع حالهم نحو الأفضل لا يكون بدون تغيير ما بأنفسهم وما يعنيه ذلك من تغيير في الإرادة نعبّر عنه في مثلنا الشعبي بـ «النفس وما تريد» وتوفّر القدرة على الإنجاز كما يعكسه المثل الفرنسي «إذا أردنا استطعنا».                                                                                                                        
ومعلوم أيضا أنّ لا تنمية أفضل اقتصاديا واجتماعيا لمجتمعنا بدون تنمية الإنسان التونسي باعتباره مهندس العملية التنمويّة ومديرها وكذلك المستفيد الأول والأخير من ثمارها.                                                                       
و تشترط تنمية الإنسان منحا علميّا تفرضه قناعة مفادها أن لا تغيير عميق في واقع الحال ولا تنمية حقيقيّة بدون إجراءين إثنين :                                                          
أولاهما تعميق النظر في حقيقة الإنسان ورسالته في الحياة وفي حقيقة التصورات السّائدة وطريقة التّفكير المتّبعة في مجال الاستثمار والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والوقوف عند محدوديتها.                                                                                                   
ثانيها حسن تدبر مخزوننا العلمي والحضاري بعقلية ناقدة وبانفتاح على علوم العصر واستيعاب كامل للآليات الحديثة لعلنا نقي أنفسنا ومجتمعنـــا نارا وقودها النّاس والبنـــى التحتيّة كما هـــو حال أشقائنا، فرج الله كربهـــم في كل من سوريا والعراق واليمن وليبيا، ونقي فئات عريضة من النّاس مرارة الحرمان وشرّ البطالة وبؤس التّفاوت النّاتج أساسا عن إقصاء مالي وما يخلفه من إقصاء اقتصـــادي فاجتماعـــي وما يولّده من احتقـان فاضطرابـــات وعدم استقرار كما هو حال كثير من النّاس في العديد من الدول.                              
وإذا ألقينا الضّوء على المال شريان حياة اقتصادنـــا وأحد أهم شروط إنجاز أي منوال تنموي لمجتمعنا وما وصلت إليه وضعية التّمويل عموما في بلدنا، استوقفتنا صعوبات عديدة وعراقيل متنوعة يواجهها نظامنا المالي بما فيه قطاعه البنكي جرّاء اقتصار الاعتماد على التّمويل التقليدي تصوّرا وفلسفة وآليات سواء في الاستثمار أو في التّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة وتأخّر عن مواكبة التطورات المتلاحقة في العالم في مجال المال والأعمال.
وفي هذا السياق يعاني نظامنا المالي من نقص كبير في السّيولة ومن تكلفة باهظة للاقتراض الأجنبي ومنحى ما إن يصعد حتى يتدحرج سواء في حجم الاستثمارات الخارجيّة المباشرة أو الاستثمار في حافظة الأوراق، فضلا عن استئثار قطاع الطّاقة بالنّسبة الأكبر من تلك الاستثمارات وتخلّف الفلاحة عن الاستفادة منها رغم الحاجة العامّة لمنتجاتها واشتغال كثير من ضعاف الحال في مناشطها، أضف إلى كل ذلك ضعف مداخلنا من العملة الصعبة لضعف قدرتنا التنافسية وغيره.                                                                                  
ومن جهته، لا يزال قطاعنا البنكي قطاعا تقليديّا لم يرتقي بعد إلى المستوى الذي وصلت إليه البنوك في الاقتصاديات المتطورة لا من حيث الهيكلة والحجم ولا من حيث الحوكمة فضلا عن أن دخله لا يزال يعتمد اعتمادا شبه كلّي على فوائد القروض وعمولات البنوك وقد ازداد وضعه سوءا نتيجة نقص السّيولة المتفاقم منذ أكثر من ثلاث سنوات.
وقد تراجعت السّيولة البنكيّة كثيرا نتيجة أسباب عديدة منها فقدان ثقة كثير من العملاء في المؤسّسات الماليّة القائمة وبحث آخرين على معاملات ماليّة منسجمة مع معتقداتهم.
وقد أوصل هذا النقص في السّيولة الحجم الجملي لتمويل البنوك من طرف البنك المركزي إلى 5 مليارات دينار في أوت 2013 على سبيل المثال كما انعكس ذلك النقص سلبا على حجم القروض الممنوحة للمؤسسات والأفراد ممّا ساهم في تقلّص النّشاط الاقتصادي خاصّة إذا استحضرنا أنّ اقتصادنا يموّل بشكل شبه كلّي بآلية القروض البنكيّة إذ أنّ نسبة هذا النوع من التّمويل بلغت 92 بالمائة.                                                                         
وأمام ندرة التّمويل وما لها من تداعيات سلبيّة على الاستثمار من جهة والتحديات التنموية من فقر وبطالة وتفاوت جهوي من جهة أخرى، لا يسعنا إلاّ أن نعيد النّظر في كيفية إحداث مصالحة بين المؤسسات المالية والمدخرين من جهة وتحديد وجهة التمويل من جهة أخرى بما يحقّق مزيدا من مواطن الشّغل ويرفع من القيمة المضافة للمشاريع ويعلّي من نسبة الاندماج المالي لضمان اندماج فئات عريضة من مجتمعنا في الحياة الاقتصاديّة كقاطرة لاندماجهم اجتماعيا وسياسيا والحال أن هاته الفئات لا تزال إلى اليوم على هامش النشاط الاقتصادي والجهد التنموي عموما.   
وتفاعلا مع هذا المنحي يطرح سؤال عن ما عسى أن يقدّمه التمويل الإسلامي في هذا المجال خاصّة وأنّ مهندسي التّمويل التقليدي سارعوا للاستنجاد به عند ما اعترضتهم الأزمات وفرقتهم السبل ؟      
إنّ الدّارس لتجارب بعض الدّول التي مارست التّمويل الإسلامي سواء المسلمة منها أو غير المسلمة يخلص إلى نتيجة مفادها أن جميعها استفادت وحققت النفع لاقتصادها وشعوبها مما يدفعنا للبحث عن الكيفية التي تعاطوا بها مع التمويل الإسلامي؟          
و لكن نذكّر أولا بتعريف التّمويل الإسلامي والنوع المصغر منه ونشير إلى مكانة ذلك التمويل في القطاع المالي لماليزيا مثلا كمؤشر على درجة ثقتها فيه ثم إسهامه في خدمة اقتصادها ونفع مجتمعها وغيرها من الشعوب. 
 فالتمويل الإسلامي هو «تقديم ثروة، عينية أو نقدية، بقصد الاسترباح من مالكها إلى شخص آخر يديرها ويتصرف فيها لقاء عائد تبيحه الأحكام الشرعيــــة» (مفهوم التمويل في الاقتصاد الإسلامـــي د منذر قحف جدة 1425 هـ منشورات البنك الإسلامي للتنمية / المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب)   
أما النّوع المصغّر من التّمويل الإسلامي فيمكن تعريفه انطلاقا ممّا سبق ومن التّعريف المتفق عليه للتمويل الأصغر عالميا، على أنّه تقديم مجموعة منتجات ماليّة لكلّ من وقع إقصائهم من النّظام المالي السّائد بصيغ تتفق مع أحكام ومبادئ الشريعة الإسلاميّة ووفق معايير وضوابط شرعيّة. كما يمكن لهذا النوع من التمويل توفير خدمات لأصحاب المشاريع الصغرى كالاستشارة والإرشاد والتدريب والمتابعة والمحاسبة...         
دور التمويل الإسلامي في الاستثمار    
نمت في ماليزيا صناعة التمويل الإسلامي بشكل مطرد في العقد الماضي، بحيث أنّها لا تزال تسيطر على نحو ثلثي سوق السندات والصكوك الإسلامية في العالم.
وشكّل أصول صناعة التّمويل الإسلامي لديها نحو 22 % من الأصول المالية الإجمالية الماليزية في 2011، مقابل 6.9 % في العام 2000، وهو ما يسهم بنحو 11 % من إجمالي التوظيف في القطاع المالي العام ممّا يؤشر إلى الثقة التي حضي بها التّمويل الإسلامي والنّجاحات التي حقّقها لاقتصاد ماليزيا.
وفي ظلّ الطلب المتزايد على منتجات التمويل الإسلامي، فإنّ ماليزيا تسعى لتعزيز موقعها مركزا عالميا في هذا المجال، وفي هذا السّياق شجّعت السلطات التعامل بالصكوك الإسلاميّة وهي أوراق ماليّة متداولة تمثّل أصول حقيقيّة لا دينا، وهي بالتّالي شهادات ملكيّة ذات استقرار كبير ومخاطر متدنية غرضها التّمويل ويمكن من خلالهما التّحكم في حجم السّيولة النقديّة وعوائد تلك الصّكوك ناتجة عن ربح حقيقي.     
كما أنعشت ماليزيا سوقها بنحو مليار دولار تتعلّق بصكوك لأجل عشرة أعوام بدل خمسة، وذلك لفتح الباب أمام فئات أخرى من المستثمرين.         
كما وضعت حوافز للتمويل الإسلامي بهدف جلب مزيد من الاستثمارات للبلاد، خاصة من البلاد العربية والإسلامية وتحديدا تركيا ودول الخليج ومن بين هذه الحوافز خصم كل الضرائب على الاستثمارات العالمية التي تعتمد الصّكوك الإسلاميّة لثلاثة أعوام، وتمديد الإعفاء من ضريبة الدّخل على إصدار الصكوك بالعملة المحليّة حتى موفى هذا العام، وتخصيص دعما منفصلا وعلاوات للمنتجات الجديدة في هذه الصناعة.             
وقامت الدولة بترسيخ ثقة المستثمرين في قطاع التّمويل الإسلامي من خلال تطوير سبل الأمان وتقليل المخاطر والمحافظة على الاستقرار المؤسسي والمالي، كما أقرّت متطلبات تنظيمية للحفاظ على معدّل العائد على الودائع التنافسيّة.           
وحسب مجلس الخدمات الماليّة الإسلاميّة ومقرّه «كوالالمبور» هناك آفاقا واعدة في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا لقطاع التمويل الإسلامي الذي تبلغ قيمته تريليون دولار بفضل النّمو السّكاني والموارد الطبيعيّة والسّياسات التي تشجّع على التوسّع.             
وحسب تقديرات المجلـــس فإن قطاع التمويـــل الإسلامي ينمو بـ 15 % إلى 20 % سنويا، ومعظم النّشاط في هذا القطاع يأتي من الأسواق التقليدية، وهي ماليزيا والشرق الأوسط.         
دور التمويل الإسلامي في التنمية :
مشاريع نموذجية
انطلاقا من حسن استثمار شعائر الإسلام وبالتحديد شعيرة الحجّ وشعيرة التضحية على سبيل المثال لا الحصر، أبدع العقل المؤمن بمشروع النفع للنّاس تجربة صندوق الحج في ماليزيا وابتكر مشروع الأضحية في نيوزيلاندا واستراليا محققا بذلك المقصد السّامي من الشعائر والشرائع على حدّ سواء متمثّلا في حفظ كرامة الإنسان عبر الحفاظ على حريته وذلك من خلال تمكين الجميع «كل حسب جهده ولكل حسب حاجته».   
المشروع الأول:
صندوق الحج في ماليزيا         
من مبالغ مالية محدودة لكن من طرف أعداد كبيرة من الراغبين في إقامة شعيرة الحج، أنشأت «ماليزيا» صندوق الحج سنة1961 وقام بتنمية موارده في مشاريع إنتاجيّة للمساهمين نصيب من أرباحها تؤدّي إلى خفض كلفة الحجّ وتحسين جودته.         
وقد عرف هذا الصندوق تطورا نوعيّا ليصبح بعد ثلاث عقود أكبر بنك إسلامي في البلاد وما يعنيه ذلك من رأسمال معتبر ووفرة السّيولة ممّا مكّنه من المساهمة في الاستثمار والعملية التنموية. 
المشروع الثاني:
مشروع الأضاحي  
تمّ إقامة مزارع وقفيّة في «نيوزيلاندا» و«استراليا» لتربية المواشي المخصّصة لأضاحي العيد نظرا لوجود أراضي ممتازة للأوقاف غير مستغلة.    
وتأسّست تبعا لذلك وحدات لاستغلال الصّوف والجلد ووحدات أخرى لتجارة اللّحوم ممّا أحدث مواطن شغل عديدة امتصّت أيادي عاملة كانت عاطلة على العمل ووفرت الحاجات الأساسية لكثير من ضعاف الحال.
هكذا وبحسن تدبّر لمخزوننا العلمي والحضاري وبوعي عميق للمقصد السّامي للشّعائر، يمكن للعقل المهتم بأمر مجتمعه والمستحضر لمسؤولياته تجاه مجتمعه عنوان انتمائه له أن يبدع مشاريع تنموية تساهم في توفير شروط الحياة الكريمة لمن يشترك معه في الانتماء إلى النّوع البشري.
-------
- رئيس مركز الدراسات التنموية
najmghorbel@gmail.com