الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد التاسع عشر

  

بسم الله الذي أطفأ لهيب الحرب بين النهضة والاتحاد والصلاة والسلام على محمد المصلح بين العباد

 

من مآسي ثورة الكرامة، أن الشباب الذي قادها سرعان ما سلّمها لطبقة سياسية يتميز أغلب متصدريها بجهل مع كثير من العقد النفسية والفكرية نتيجة لما تعرض إليه جزء منهم من قمع وتنكيل جراء دكتاتورية العهدين السابقين وتمسك بعضها الآخر بإيديولوجيات تجاوزها الزمان ولفضها أصحابها. وقد أدّى تصدّر هؤلاء للمشهد السياسي إلى الانحراف عن مسار تحقيق أهداف الثورة ودفع البلاد إلى احتقان اجتماعي خطير من جهة وتدهور اقتصادي كبير من جهة أخرى. ولعلّ المتتبع للساحة التونسية يلاحظ بوضوح أن وتيرة الأزمات أصبحت في ارتفاع ومبدأ التوافق قد يلفظ أنفاسه بين لحظة وأخرى. هذا الواقع الجديد أدّى إلى نفور الناس العقلاء من العمل السياسي الذي يكاد يصبح في أذهانهم "خطيئة" وبابًا للفتنة يجب غلقه.

فجزء كبير من الطبقة السياسية لم يفهم أن البلاد خرجت من الاستبداد لكنها لم تدخل عالم الديمقراطية بعد وأنه لابدّ من المرور بمرحلة انتقالية قد تقصر أو تطول حسب جهد وذكاء الفاعلين ولا يمكن لهذه المرحلة أن تمرّ بسلام مادام الصراع يتصدر الحراك بدل التنافس. فالذين يتحدثون عن "الشرعية الإنتخابية"، يتصورون أنها كافية لحكم البلاد ويتحركون بصفتهم أصحاب القرار وكأنهم في واقع أرست فيه الديمقراطية أعمدتها وارتفع بناؤها. وبالرغم من التحركات والانتفاضات الشعبية هنا وهناك (حتى وإن كان وراءها أحزاب وجماعات سياسية) فقد تمترسوا في أماكنهم معتبرين أنهم على حق وأن الآخرين على باطل وهو ما تعبّر عنه تصرفات نوابهم في المجلس التأسيسي وتصرف بعض أعضاء حكومتهم عند الأزمات. أما الذين يتحدثون عن "الشرعية النضالية" ويتحركون وكأنهم في زمن الثورة بين 17 ديسمبر و 14 جانفي رافعين شعارات أمثال "لن تمرّوا" و "ديقاج" ويدعون إلى إسقاط الحكومة صباحا ،مساءا ويوم الأحد، فإنهم لا يعيرون المرحلة الانتقالية أهميّتها ويرون أن حكم النهضة هو في حد ذاته انحرافا للثورة يدفعهم في ذلك انغلاقهم الإيديولوجي وحسن استغلال تدهور الحالة الاقتصادية وصعوبة المعيشة لدى طيف واسع من المواطنين وضيق أفق التنمية في الجهات المحرومة . وهم بهذا الصنيع يدخلون البلاد في نفق مظلم ويضربون بالديمقراطية الناشئة عرض الحائط ويحفرون قبر التداول السلمي للسلطة .والخطير في الأمر أن الصراع بين هذين الفريقين تحوّل إلى بطحاء محمد علي و بعض المقرات الجهوية للاتحاد العام التونسي للشغل بشكل ينبأ بأيام عصيبة على البلاد. ولعل ما حدث بسليانة ثم ببطحاء محمد علي ليلة الاحتفال بستينية الشهيد فرحات حشاد وما تخلله من أعمال عنف ثم إعلان وتنفيذ إضرابات جهوية وإعلان الإضراب العام الذي كان متوقعا تنفيذه يوم أمس ولم يرض الغاؤه بعض الأطراف كلها أحداث تهدد السلم الأهلية و تدفع البلاد إلى المجهول. فالصدام بين حركة النهضة والإتحاد العام التونسي للشغل لن يكون بالأمر الهيّن بل سيكون، لو حصل لا قدّر الله، نقطة بداية النهاية لثورة هزّت أركان العالم ونار ستأتي على الأخضر واليابس ومنعرج خطير قد تنزلق في نهايته المركبة ويومئذ سيفرح الشامتون المتربصون.

فقليل من العقل أيها السياسيون والنقابيون ... وانظروا إلى أمامكم ولا تنظروا تحت أقدامكم واعتمدوا على عقولكم ولا تعتمدوا على عواطفكم  وفكّروا في المواطن المسكين والشهيد وأم الشهيد والجريح الذي لم يشف من جرحه بعد ولا تفكروا في مصالحكم الحزبية والايديولويجية الضيقة... تذكّروا الوكيل أنيس الجلاصي وغيره الذين استشهدوا وهم يدافعون عن سلامة التراب الوطني ويصدّون جماعات إرهابية مسلّحة لا تتحرك إلا عند الازمات وتعرف كيف تستغل لحظات الاحتقان والفوضى.  فالتاريخ لا يرحم وسيذكركم بالاسم ويذكر أنكم أضعتم فرصة على هذا الشعب في تأسيس دولته الديمقراطية ليعيش فيها بأمان وسلام ويحقق التنمية التي حلم بها طيلة عشريات من القحط والظلم والاستبداد.... استفيقوا يرحكم الله...