تأملات

بقلم
يسري بن ساسي
في الدين والسياسة
 لقد بلغت مسألة دبغ الدّين بالسّياسة بماهي تصريف لعامة شؤون النّاس داخل حدود معيّنة حدّ الازدراء والاستنكاف الشّديد من بعض مفكرينا والكثير منهم يفصح عن هذه المضمرات ولا يدّخر لأيا في تضغين العلاقة بين الدّين والدولة بل وتأبيد هذا الانفصال، فيبدو كلّ من يساحن بينهما كمن تأبّط شرّا..
و إنّنا لمحسورون على ذلك فعلا..فأمشاج الفكر تفنى في تكسيح الأوصلة بين الإسلام و كيفية تنظيمه للأمور الحياتيّة للنّاس وشلّها بدل تقويم المنآد منها وتسويته..
في جزعة نقرأ مقالات ودراسات وكتبا مضيت في حثيث البرهنة ودأب الحجاج على استحالة تقدّم ترومه المجتمعات العربية دون اجتثاث كامل لكل الشّوائب والطفيليات التي تعيقه وأولها  مشوبة الدّولة بالدّين ..أأصبح الدّين شائبة؟..
هل غلقت مسألة العلاقة بينهما على الفكر حتى انقاد معظم النّخبة العربيّة إلى أخنى السّبل وهو عزل الدّين عن السّياسة ؟
في رأيينا أنّ معظم ما شفا بمفكرينا على جوانب هذه الحفرة هو التأسّي بالفكر التنويري الغربي- وهنا جاز للبعض أن يسمّيهم التيار التغريبيّ- وفاتهم في ذلك أنّ الدّين المسيحي والدّين اليهودي يفترقان عن الدّين الإسلامي في أكثر من وجهة وأعدّ من نسق..
و إنّنا هنا لسنا بصدد الدّفاع عن الإسلام، فهو ليس بحاجة لأن ندافع عنه  بقدر ما هو استحضاض متواضع بغاية إعادة تشكيل رؤى عقلانيّة ذات أعييرة مبدئيّة أوليّة لا تتعارض فيما بينها ولا تتناقض فتتهاوى كلّها..
إنّ تطبيق المقياس الإبستمولوجي على الإسلام على غرار بقيّة الأديان بما يخلص إلى اعتباره خندقا للحرّيات الانسانية، يناقض المقياس أي الإبستمولوجية ذاتها لأنّه قطيعة ابستمولوجيّة، فهو مبحث وجودي ومعرفي في ذات الوقت. أي أنّ الإسلام لابدّ أن يكون مبحثا فلسفيّا وكل دين توحيدي هو في الحقيقة مبحث فلسفيّ بيد أنّ الفارق هو أنّ الدّين الاسلامي احتواها جميعها..
لكنّ الخلل في رأيينا دائما ما يمرق من هذه الزّاوية، إذ يتمّ تناول الأديان دائما من بعدها الابستمولوجي المعرفي أي دراسة المناهج والنتائج فحسب وإهمال جانب كبير وهو أن الدّين في الحقيقة هو نوع من الإجابة عن مباحثنا الوجوديّة أي كيف وجدنا ؟ معنى وجودنا ؟ غائيّة وجودنا؟ هل نحن موجودون فحسب ضمن ما نراه موجودا أم موجودون فيما لا نراه وهل الموت نهاية وجودنا؟ أسئلة كثيرة والدّين واحد من الأجوبة على أهمّ أسئلتنا، فكيف يتمّ قصره على مبحث معرفي..
إن الانسان في حياته بحاجة لأن يعرف من أين جاء ولم خُلق وكيف يسير فيم خُلق من أجله ؟ وأسئلة جوهريّة كهذه تبحث في لبّ الوجود يقدّم لها الدّين مرافئ آمنة فتهدأ وتستكين وتهتدي لأنّه يدلّها بالعقل عدم قدرتها بذات المعيار على الإحاطة بكلّ سرّ الوجود، فهو يعجز العقل من خلال العقل ذاته وهو ما يدرك بالعقل أنّه لا يدرك..
من هنا كان حصر الدّين في تلك الممارسات والشّعائر الاعتقادية ضالاّ عن منشأ الحاجة إلى هذه الممارسات والشّعائر وتائها عن غرض الإنسان من الدّين قبل غاية الدّين من الإنسان أو الأصح غاية الدّين في الإنسان..
ولذلك وحتّى في هذه العلاقة التّرابطيّة بين الدّين والإنسان تفتر الثّغرات التي تحدّ من شموليّة إدراكنا وتضيّقه في زاوية بعينها، ذلك أنّها تهيّئ له من خلال سوء تمثّل الرّابط أنّ الدّين بحاجة للإنسان بينما الإنسان بحاجة للدّين لضمان استقراره الرّوحي والنّفسي والمعنوي وبالتالي الوجودي..
ليس الدّين بحاجة للإنسان ليخدمه بل الانسان هو من بحاجة للدّين ليخدمه ليكون لوجوده هدف ولحياته معنى، فلم يتمّ دائم منطقة الأمور بعكس منطقها..
«الدّين لله» هذا ما يبرهن به على غير برهانه فعلا وإذا كان البرهان حجّة العقل، فمن الصّلف أن نسمّي هذا برهانا، فالدّين ليس لله ..إنّ الله لغنيّ عن ما ندين به سواء به أو بغيره لكنّنا ندين لأنّنا بحاجة لله وليس العكس..
ما كان أغنى الله عن صلاتنا وصيامنا وقيامنا وحجّنا وزكاتنا ..إنّ هذه الشّعائر هي من ضمن طريق خلوص الإنسان إلى غائيّة وجوده والحكمة منها وهي تهذب نفسه وتنقيها وتطهّرها من أدران المادّة الزّائلة بموت الإنسان..
و لكن هذا الشّعائر ليست هي وحدها الإسلام وليست هي وحدها التي ستقود الإنسان إلى السّعادة التي ينشدها، ففي الشّعائر ذاتها ما يدلّ أنّ ما تحثّ عليه يجب أن يكون منهج حياة وسلوكا إنسانيّا وفعلا حادثا..
يعتبر طرح الدكتور علي شريعتي لمسألة العلاقة بين الدّين والسّياسة- وإن كانت مداخله في غالبها ذات بعد إصلاحيّ اجتماعيّ- طرحا متفرّدا وثائرا على الكثير من المفاهيم المرتبطة بتمثّل السّياسي للدّيني والدّيني للسّياسي والتي اعتبرها خاطئة، ولربّما أيضا كان تناولا صادما خاصّة في الفترة التي عاصرها إذ أنّ المؤسّسة الدّينيّة كانت إلى حدّ بعيد تنزّه عن الانتقاد وكشف النّقائص وتعتبر منيعة وغير خاضعة لآليات الفكر وتوجيهاته..
لكنّ هذا المفكر لم يصغ إلى الدعاية ولم يبالي أيضا بالتّهديدات واخترق فكره تلك الحواجز الافتراضية  وسطع إلى أن غدا إلى الآن مرجعا هامّا وقطبا متفرّدا من أقطاب الفكر الدّيني المجدّد..
لقد نقد الدكتور علي شريعتي آنذاك المؤسّسة الدّينيّة التي كانت مهيمنة على الحياة السّياسيّة وكان حادّ اللّهجة في أحيان كثيرة وكان أساسه في هذا مدى تناقض معالمها مع معالم الإسلام الجوهريّ إن صحّ التعبير ولربّما الاجتماعي إذا ما اقتربنا أكثر لمنهج هذا المفكّر الذي كان يركّز على هذا الجانب باعتباره المنفذ لكل إصلاح حقيقي وشامل للمجتمع...
لم يكن علي شريعتي –وفق قراءتنا الخاصة – و برغم  أن مشروعه واجه الكثير من العقبات في حياته وبدائل أخرى بعد مماته من ذلك ما قدّمه الدكتور عبد الكريم سروش  فيما بعد وسنتحدث عن ذلك لاحقا..لم يكن رافضا للإسلام السّياسي ولم ير في العلمانيّة الحاضن لكل الاختلافات ذلك أن تمثله لروح الإسلام و لبّه حدا به عن مسار اتبعه معظم  المفكرين آنذاك وإلى الآن ممّن اطّلعوا عن قرب على الحضارة الغربيّة  من خلال دراستهم أوعملهم وتأثّروا بها كثيرا..
لقد كان دحضه أساسا لفهم خاطـــئ للإسلام ولربّما لا فهمه أصلا من خلال اختزاله في جملة من الشعائـــر والممارسات الشكليّة فحسب دون الولوج إلى الحكم الإلاهيّة المرسلة للإنسان من خلالها وعكس ذلك على مواقفه في الحياة العامّة وعلاقاته المختلفة إذ يقـــول: «إن لم تكن حاضر الذهن في الموقف فكن أينما أردت واقفا للصّلاة أم جالسا على مائدة الخمر كلاهما واحـــد.» ولعلّ هذه الجملة  تلخّص الدّعوة الصريحة لإحلال الإســـلام لا في الطّقـــوس فحسب بل في الممارسة والسلوك البشري وربط مقدار تحقّق نهضتنا بمقدار ترجمة الإسلام في حياتنا الاجتماعية اليومية..
 و إذا كان شريعتي قد ثار على تزييف الدّين واستغلاله السياسي فإن ذلك لم يمنعه  في ذات الوقت من التحفيز على الوعي الدّيني الحقيقي والتعويل عليه لإزالة الغشاوة على العقول ودفع الجهل المكرّس باسمه فكان من قلائل المفكرين الذي جمع في ذات الوقت بين رفض أشكال التّخلف الواقع باسم الدّين وتبنّي فكر ديني مستنير متخيّر كسبيل للارتقاء بالمجتمع، فكان المفكّر الحديث الأصيل في الآن نفسه لأنّ باقي المفكرين وإن كانوا شديدي الانتقاد لعلاقة الدّين بالسّياسة، فقد توصّلوا في النهاية-تأثرا بالمدرسة الغربيّة- أن الدّين يغدو معضلة  في بلداننا إن اختلط بالسّياسي و تفقت التيارات العلمانيّة  أصداء لذلك..
إذا كان الدكتور «علي شريعتي» قد ركّز على ضرورة تخليل الإسلام حياتنا الاجتماعية بل وإقامتها على أسسه ليوشّح أيضا من ثمّ الحياة السّياسيّـــة دونما تسلّـــط واستبـــداد للمؤسّسة الدّينيـــة عليهمـــا وإنما تبنّيهـــا ورعايتها وتشرّبها لمنابع الإصلاح في كافة مناحيه، فقد تمّ اعتبار مشروعـــه من قبل بعض الدّارسين- خاصّـــة الآيسييـــن من أي مشروع حضاري انسانـي قائم على إيديولوجية معينــــة - ناشئا عنها أي عن إيديولوجيـــة بذاتهـــا وقد لا يكـــــون بخضوعــــه لها ذو آفاق رحبــــة وفي ذلك في الحقيقــــة وفق ما نرى تحامل كبير على الإسلام ذي البعد الانساني الواسع والشامل..
و في سعي للفكر الانساني إلى التّحرر من قيوده  والبحث دائما عن مناص من أن يكون أسير فكرة واحدة تستبد به وتجرفه إلى الغطرسة وعدم قبول الاختلاف بل والتنظير بأحقيّة فكرته دون غيرها كانت دائما المحاولات متكررة لاجتثاث ما قد نعتقد أنّها عنصريّة الفكر أو أحاديته ولعلّ العربي منه بقي يراوح بين الانكفاء المطبق على إيديولوجية بعينها دون غيرها أو طرح كل الإيديولوجيات جانبا إذ تراءى له تهلهلها وتداعيها خاصّة منه الطامح إلى توطيد كل المعاني الانسانيّة في المطلق ولكن المشكلة قد لا تكون كامنة في الإيدولوجية بعينها بل في التمثّل العام لها وجعل  هذا التمثل منخرطا في السياق الكوني. 
والأكثــــر مـــن ذلك مقدار الخـــام منهـــا الذي بقــــي في الأذهان والعقول ولم تدنّسه الانحرافات والضلالات والبدع وتفرق المذاهب والتّيارات، فكل فكرة بدأت انسانيّة أصيلــــة تتلقّفهــــا المؤثّرات الكثيـــرة تطمس جانبا كبيرا من حقيقة وجهها وتحرّف يسيرا من عموم وجهتها لذلك تجدنا نسدّد إصبع الاتّهام نحوها بدلا من مراجعة مسببّات مسخها واستئصالها.. 
 الدكتور «عبد الكريم سروش» كان من بين من واجهوا فكريّا تكريس إيديولوجيّة معينة على أنّها الحقيقة المطلقة أو الفكرة الكاملة  أو المنحى الأفضل ومن بين من اعتبروا الاختلافات الدّينية والخلافات الدّينية قد ترد وتحد بإرجاع مسألة المعتقد إلى أصلها في الانسان أي كونها ذلك الإيمان الدّاخلي العميق لدى كل واحد وكان بذلك أقرب دعوة إلى  التركيز على البعد الصّوفي للأديان والذي يرتقي بالنفس ويوحدها مع ذاتها ويؤاخيها مع باقي النّفوس ولكأنّ ما يقوله المتصوّف الأندلسي  ابن عربي حاضر بشدّة اليوم بيننا أكثر من أي وقت مضى :
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان و دير لرهبان
و بيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه... فالحب  ديني وإيماني 
هل هو إعلان لإفلاس كل الإيديولوجيات وتخبّطها جميعها في درك النزاعات والمعارك البشرية وتعميقها بدل تبديد معظمها أم أنّه هروب من قراءة نقديّة حقيقية ومتمعّنة للموروث الفكري والحضاري تستخرج منه عصارته لتستنبط منها ما يواكب مجريات الحداثة وتطرح عن هذا الفكر الطفلييات والرواسب العالقة ...
العلم يتقدّم في المجمـــل بهذه الطريقة -عدا بعض الاستثناءات- إذ أنّ نتائج البحث أو التّجربة أو المعاينة المحقّقة  تغدو فيما بعد منطلقـــات لتجارب تالية وهكذا تؤسّس التراكمات لنسق علمي تصاعــدي على مدى التّاريـــخ بيد أن الفكر لا يبدو خاضعا لهذا المنطق.. فالأفكار يهدم بعضها بعضا ويدحض كلهّا جلّها.. تتقدّم حينا بالانســان لتقهقــر به أحيانا كثيرة وليعيد  غالبا ذات الأخطــاء.. وبالرغم من كون التّاريخ يسير إلى الأمـــام وتتطور الحضــارة المادّية إلى الأفضل.. إلاّ أنه على المستوى الفكـــري بقي الانسان تقريبا ثابتا أي أنّ الخطوات إلى الأمـــام صغيرة ومحتشمة وأمّا الارتدادات إلى الخلف فما أكثرهـــا وليس أدلّ على ذلك من الحروب المشتعلة أوارها في كل رقعـــة من الأرض والملاييـــن التي تموت جوعا فيما تموت البقيـــة تخمة، أي أنّ التوازن الفكري تقريبـــا منعدم ما ينعكس ضرورة على توزيع ليس فيه أدنى عدالة لثروات الأرض التي وهبهــــا الله للانسان فعدل في ذلك ...
و إذا ضاق الانسان بصراعاته وحروبه وويلاته فلا بدّ من شمّاعة وأحيانا أكثر يعلق عليها أسباب انحطاطه وفشله بكل ما أوتي من فكر وما أرسل إليه من شرائع وما أوجد من قوانين في تغليب القيم الكونيّة على «القيم» الفردانية وفي إرخاء ظلال العدل على السواد الأعظم من البشر...
قد ظلت هذه «الفردانية» بأوجهها المتعدّدة تحكمنا منذ فجر التّاريخ وليست هي بالضّرورة تشير إلى شخص بعينه ولكنّها  مثل المضاعفات لرقم واحد الفرد ..الوطن ..الأمة..ولا يكفي أن يتصوّر الانسان أنّه بتحقيقه للعدل والرخاء-هذا إن كان فعلا عدلا- في هذه النطاقات الثّلاث سيهنأ بالا ما لم يكن عدله ورخاؤه لا يهضم حقوق باقي الأمم والأقليّات أيضا ولا يمكن أن يطمئن روعه طالما في بيته مؤونة أشهر وجاره لا يجد رغيف يومه.. 
أما الشّماعة التي قد نعلق عليها أنانيتنا فهي اختلافنا بكل ما في ذلك من أوجــه متعدّدة..اختلافنـــا الاثني والعرقـــي والديني وغيره من الاختلافات التـــي أصبـــح معظمنـــا لا يعتبرها إثراء وحقلا انسانيا خصبا ورحمة ولكنه يعدها نقمة، وبكل دغمائيّة يعتبرها أصـــل الدّاء ومبعث الحروب والصّدامــــات ويلقــــي على كاهلهـــا متاعب البشريّــــة ومعاناتها.
ومسألة المعتقـــد هي أكثـــر شمّاعة نعلق عليهـــا ارتطام الانسان بآفاق مســدودة في إيجاد مخارج لأزماتـــه المتعاقبة المتكرّرة.. لكن هل فعلا يضيرني أن تختلف عنّـــي في المعتقد أو سواه طالمـــا لم تتعدّ على حقّي ولم تسلبنـــي الحياة؟ ..هل يضيرني أن تكون مختلفا عنّي طالما لم تتمدّد بأطماعك على نصيبي فيهـــا؟..هل يضيرني أن تكون مختلفـــا عنّي طالما لم تتخطّــى الحدود وتحرمني حتّى الهواء النّقي أتنفّسه ..هل يضيرني أن تكون مختلفا لو لم تخنقني لتتطغى في الحياة؟.
-------
-  كاتبة تونسية
docyosra@hotmail.fr